كتاب "الموريسكيون الأندلسيون"، إسهام أساسي لفهم القضية الأندلسية

 كتاب "الموريسكيون الأندلسيون"، إسهام أساسي لفهم القضية الأندلسية




"لا نظن أن هناك مبالغة إذا قلنا إن الكتاب -بما يتضَمَّنه من وثائق- يُشَكِّلُ الخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها من يريد دراسة تاريخ الأندلس بعد سقوط غرناطة" 
(1 ).

يُقَدِّمُ الكتاب للقارىء بشكل عام وللمجتمع العِلمِي بشكل خاص وثائق تاريخية أساسية عن المجتمع الموريسكي الأندلسي. يُمكِنُ اعتبار هذه الوثائق -المُختارَة بعناية فائقة- فَنًّا توجيهيا موضوعياً وسلساً يفتحُ أمام المُتلقي آفاقاً فكرية نقدية علمية ضرورية لفهم القضية الموريسكية الأندلسية، وأبوابا رئيسية لتكوين صورة أكثر دِقة وأشدّ وضوحا عن هذه الفئة على المستوى الاجتماعي والثقافي والديني والديمغرافي والاقتصادي والعسكري والحِرَفي والجغرافي. تُحَفِّزُ الوثائق القارئ على تلَقي الحقائق التاريخية بعيدا عن كل انحيازات مُسبَقَة. تدفعُه للتنصل من نطاق "الراحة" الفكرية المُتوارَثَة والابتعاد عن الخطاب السردي العاطفي. تُعيدُ صياغة الذاكرة الجماعية وتُغنِي حقل التاريخ ومُختلَف المعارف الإنسانية. 

بَلَغَ التأريخ الاسباني اليوم مستوى متقدما في مجال الدراسات الأندلسية الموريسكية. نشأ هذا الاهتمام نتيجة دراسة وثائق محاكم التفتيش وكمُحَصِّلَة للعثور على مخطوطات موريسكية أعجمية، أي نصوص خُطَّت بأقلام موريسكية. شكّلَ الاهتمام بدراسة هذه الأخيرة تحدياً علميا كبيرا. لم يكن تقديمها وتحليلها سهلا أو ممهدا أو مُتيسرا. فقد اعتمد الموريسكيون نظاما كتابيا معقدا. ويتجلى هذا التعقيد في استعمالهم للأبجدية العربية لتأليف نصوص رومانية. (2) أدَّى هذا الاهتمام إلى ظهور علم جديد أُطلِقَ عليه اسم "الموريسكولوجيا". 

يَعرِضُ الكتاب قضية الموريسكيين الأندلسيين (وهُم المسلمون الذين بَقَوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي وأُجبِرُوا على اعتناق النصرانية) (3)، من خلال الاستشهاد بنصوص أعجمية أَلَّفوها بأنفسهم وأخرى أُخِذَت من ملفات محاكم التفتيش الإسبانية. يستعرض الكتاب وثائق متنوعة (اتفاقية تسليم غرناطة، رسالة مُفتي وهران، نبوءات موريسكية، موقف الإسبان من الموريسكيين، أحوال الموريسكيين في بلاد المَهجر، حقائق حول عودة أعداد كبيرة منهم إلى وطنهم الأصلي...).   

في التاسع من أبريل سنة 1609، أصدَرَ ملك اسبانيا فيليب الثالث قرارا يَقضي بإجلاء الموريسكيين مما أدى إلى طردهم من شبه الجزيرة الايبيرية في عمليات تهجير جماعي بين سنتي1609 و 1614 . شَكَّلَ قرار الطرد حلقة جدلية من حلقات التطهير العِرقي والسياسي والديني. يستعرض الكتاب حياة المسلمين قبل وبعد صدور قرار التنصير. تعرض مسلمو شبه الجزيرة الايبيرية لملاحقة السلطات السياسية والدينية بعد سقوط الأندلس. وذلك لتشبتهم بدينهم الإسلامي خفية ومُواظبتهم على ممارسة طقوسهم وعاداتهم وشعائرهم بشكل سري. الأمر الذي اعتَبَرَتهُ السلطات الكاثوليكية هرطقة دينية وشكلا من أشكال الخداع والغدر للجوهر الهوياتي الاسباني. فاعتُبِرَ الموريسكي خصما سياسيا وعنصرا تهديديا للديانة الكاثوليكية وخطرا جادا أمام قيام الدولة الإسبانية. 

إن كل دراسة موضوعية للكتاب تُثبتُ أن الموريسكي لم يكن يوما عنصرا دخيلا بل كان صاحب أرض ووطن وقضية وهوية ودين وكيان مختلِف. لقد كان الموريسكي مُحركا أساسيا للتطور سواء في وطنه الأصلي أو في أرض المهجر. دَفَعَ ثمن اختلافه بالطرد والتهجير التعسفي. إننا أمام شعب قاوم كل أنواع المَظالم والتهميش والتحريف والتزوير نُصرة لذاكرة ثقافية أندلسية لاتندثر ولاتموت. 

 
الكتاب من تأليف الإسبانية مرثديس غارثيا أرينال، وهي واحدة من أبرز المتخصصين في مجال الدراسات الموريسكية  (4). ترجمه للغة العربية الدكتور جمال عبد الرحمن. وهو من مواليد قرية بني مجد في أسيوط (مصر). حاصل على درجة الإجازة العليا في اللغة الإسبانية بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف من كلية اللغات والترجمة. قام بدراسات تمهيدية للدكتوراة في جامعتي سلمنكا ومدريد. حصل على درجة الدكتوراة مع مرتبة الشرف من جامعة مدريد المركزية. يشغل اليوم منصب أستاذ جامعي بقسم اللغة الإسبانية بجامعة الأزهر. له العديد من الكتب المترجمة والمقالات المنشورة في مصر والخارج حول موضوعات مختلفة من الأدب الإسباني والعلاقة بين الإسلام الثقافة الإسبانية. (5)  نذكر من بينها: كتاب "الموريسكيون في اسبانيا وفي المنفى"، "مسلمو مملكة غرناطة بعد عام   "، "دراسات أندلسية موريسكية"، " حياة الموريسكيين الدينية"، "المستعربون الإسبان في القرن التاسع عشر". قدَّم الدكتور جمال عبد الرحمن ندوات في بلدان مختلفة (مصر، المغرب، اسبانيا، البرتغال، تونس...). ساعدَت اسهاماته المُحكمة في إعادة صوغ القضية الأندلسية، وتحقيق وثائق نادرة، والتصدي لمُسَلَّمَات تاريخية خرافية، وتصويب أخطاء لغوية شائعة، وإرساء قواعد منهجية تحقيقية استدراكية وتقديم مادة معرفية ثرية تُآزِرُ كل باحث مُبتَدِئ.


 


سميرة فخرالدين
.......................................


هوامش:

(1 )
"الموريسكيون الأندلسيون"، مرثديس غارثيا أرينال. مُقتَبَس عن مقدمة المُترجم الدكتور جمال عبد الرحمن ص، 
7
(2)
انظر مقال "آخر حصون الأندلسيين.. لغة «الألخميادو» السرية"، ساسة بوست، سميرة فخرالدين.
(3)
المصدر نفسه
(4)
"الموريسكيون الأندلسيون"، تأليف الكاتبة مرثديس غارثيا أرينال. ترجمة الدكتور جمال عبد الرحمن ص، 255
(5)
المصدر نفسه