تحليل لوحة “إبحار الموريسكيين من إيل غراو ببلنسية”
………………………………………………………………………………………………
السياق التاريخي
………………………………….………
إن مضمون اللوحة قويّ ولا شكّ. تزدحم الرسمة بعدة مشاهد وشخصيات وتفاصيل كلّها ممّا يسترعي الإهتمام نذكر من بينها:
1–
مشهد الشيخ المسن:
_________
يقدم الرسام بالجهة اليسرى للوحة شخصية شيخ محمول بين الأيدي. يتعلق الأمر بموريسكي مسن يحتضر بين ذراعي حامليه ، لم يرحم ضعفه قرار طرد الموريسكيين الصادر عن فيليب الثالث سنة 1609 . لعل المشهد يخلد ما ذكره أشد أعداء الموريسكيين تطرفا، الراهب و المؤرخ البلنسي خايمي بليدا ، ويعد واحدا من أهم مناصري قرار طرد الموريسكيين، في كتابه Crónica de los moros de España :
حيث تحدث عن شيخ موريسكي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في لحظات رحيله الأخير عن بلنسية ، كهل في مرض ومحنة وضعف وفوق هذا وذاك، يغدو في اغتراب. شيخ مسن شابَ فؤاده وما في الشيبِ عابُ. طلب من حامليه التوجه به للقارب وإن كان على يقين بأن موعد رحيله عن الدنيا قد حان . وذلك ما حدث بالفعل ، فما أن وصل للقارب حتى توفي بعد أن سُمع يتمتم اسم محمد (ص) . فألقوا به في البحر بعد ذلك.( (2
2- أب موريسكي يودع ابنته:
_________________
في المستوى الأول للوحة على الجانب الأيسر، يتطور مشهد توديع أب موريسكي لابنته الصغيرة للمرة الأخيرة . جسدٌ مقعدٌ بتوديعٍ لا يروم لنهضة . ومركبٌ خلفه في الإنتظار ينتهي و انحناءات الأب في تحية ابنته لم تنتهي. لا تبدو الفتاة حزينة على فراق والدها. تبدو تحيتها ثابتة وباردة نوعا ما كمعظم وجوه شخصيات اللوحة (خاصة إذا ما قارنا اللوحة بباقي أعمال الرسم التي تطرقت لموضوع طرد الموريسكيين). لا يجب أن ننسى أن اللوحة رُسِمَت بأمر من فيليب الثالث، إذن فالهدف هنا ليس عرض الرحيل الموريسكي وفراق الآباء عن أبنائهم بصورة حزينة ، وإنما تخليد حدث سياسي و تلميع قرار الطرد وعرضه بإيجابية. فاختطاف الطفلة من والدها هنا يعتبر قرارا “إيجابيا” إنه بمثابة إنقاد للطفلة من الإسلام / “الكفر” . “كان ريبيرا يرغب في الإحتفاظ بأطفال المسلمين الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة لتربيتهم على النصرانية ، لكن مجلس الدولة قرر الإحتفاظ فقط بالأطفال دون ست سنوات من العمر لكي لا يحتفظوا بأي ذكرى للتربية الإسلامية بعد بقائهم . وبعدما رفض أهلهم التخلي عنهم ، أخد النصارى كبيرهم وصغيرهم بما فيهم زوجة نائب الملك ، يختطفون أبناء المسلمين لإنقاذهم من “الكفر” (3). مثيرة للإنتباه ملابس الطفلة أمام بساطة المرأة الموريسكية الراحلة الملتزمة بملابسها التقليدية المحافظة , والمتمسكة بحجابها. كما يتكرر مشهد توديع الآباء لأبنائهم عدة مرات في اللوحة.
3-
الطبقة العليا للمجتمع الكاتوليكي البلنسي تترأس عملية الطرد:
______________________________________
4-
رموز دينية لشرعنة جريمة الطرد
_____________________
يرمز كل من تمثال الصليب الضخم الذي يتوسط الساحة و رسوم الصليب التي صُوِّرَت لأكثر من مرة على الملابس والمعدات الحربية، للحضورالكنسي. عادة ما تُعرِّضُ سياسة الإحتلال الشعوب المُستعمَرة للقهر تحت مسميات ثورية نبيلة ووهمية. فتبحث عن مبررات سامية زائفة وخادعة تُبرر من خلالها الجرائم المُقترفة، ومن بينها التنصير. إذ لطالما استُخدِمَ الدين هو الآخر لخدمة السلطة. يعكس تكرار تصوير الرموز الدينية المسيحية في فضاء اللوحة رغبة في شرعنة الجرائم التي اقترفها المستعمر الإسباني ضد أفراد المجتمع الموريسكي من طرد وسرقة و قتل و واستغلال وتحقير.
مثير للإنتباه أن اللوحة وإن اندرجت تحت تيار واقعي إلا أنها أهملت التطرق لمجموع عمليات السرقة والنهب والقتل التي تعرض لها الموريسكي والتي تورط فيها حتى أفراد الجيش الإسباني ، واكتفت فقط ببعض التلميحات المنمقة للخطف الذي تعرض له الأطفال الموريسكيون . لعل الرسام تستر على هذه الجرائم والفضائح لتلميع صورة الطرد خاصة أن اللوحة رسمت بأمر من فيليب الثالث.
تطلع الموريسكيون لطرد إنساني رحيم “لكن أملهم في الخروج بسلام لم يتحقق ، إذ لم يرحمهم عدوهم، فصاحبت عمليات الطرد جرائم وفظائع لاتصور.فقد أمرتهم السلطات بحمل ما استطاعوا من أمتعتهم ، على ظهورهم . ثم عندما أخذوا يبيعون مواشيهم ودوابهم ومنتوجاتهم الزراعية، من حبوب وزيوت وغير ذلك ، للنصارى بأبخس الأثمان ، منعوا وأعطي ذلك للنصارى. ثم تكونت في الطرقات عصابات من النصارى ، تسطوا عليهم وتجردهم مما يحملون من حلي ومال ويقتلون منهم من شاؤوا ، وشارك في النهب والسبي والقتل أفراد الجيش الذين يحرسونهم (6).
5-
دواب، عربات ، قوارب و سفن تنقل الموريسكيين لمنفاهم الأخير:
_________________________________________________
“جمعت سفن إيطاليا في جزيرة ميورقة (الجزر الشرقية) حيث يسهل توجيهها إلى موانئ الترحيل بمملكة بلنسية … فلم يصل صيف 1609 حتى اجتمعت خمسون سفينة في ميورقة و 4000 جندي في مملكة بلنسية ، بالإضافة لحرسها وخيالة قشتالة لمراقبة حدودها البرية ، وقوات المليشيا. وكلف الأسطول الإسباني في المحيط الأطلسي بمراقبة شواطئ شمال افريقيا بقيادة أمير البحر أوكندو “(7).
يزدحم الموريسكيون في فضاء اللوحة داخل عربات ضيقة تقودهم نحوالضفة حيث السفن والقوارب بانتظارهم . لم يصلوا جميعا بسلام لمنفاهم الأخير . أغرق أصحاب السفن النصارى كثيرا من الموريسكيين الذين نقلوهم ، لسلب أموالهم.
6-
أحصنة للإسبان ودواب للموريسكيين:
_________________________
مثير للإنتباه التباين الحاد الحاصل على المستوى الأول للوحة بين يمين الرسمة “نبلاء المجتمع الإسباني” ويسارها “العنصر الموريسكي الراحل”. لكلّ عنصر فضاؤه الوجودي الخاص والمستقل. ونادرا ما ينصهر أحدهم في الحيز الوجودي للآخر.
إذا كان الكلب أفضل صديق للإنسان، فالذي دون التاريخ أكيد كان حصانا. كان للحصان أثر براق في تاريخ البشرية. فهو حامل المستكشفين إلى أبعد بقاع الأرض ومؤنس الرحّالة ونصير الجيوش. و تلميعا للمكانة الإجتماعية للطبقة المشرفة على عملية طرد الموريسكيين، اختار الرسام أن يطل بعض أفرادها من أعلى الأحصنة.
بينما تظهر جل الشخصيات الموريسكية كما لو كانت مشدودة إلى الأسفل ،أحيانا بفعل ثقل متاع أو حركة أو توديع ، وأحيانا أخرى بفعل قوّة استعلائية خفية تخدم إطلالة نبلاء المجتمع الكاثوليكي. كما أن جميع الدواب التي يستعين بها الموريسكي تبدو في وضع منحني و مطأطأة الرأس.
تقدم معظم شخصيات المجتمع البلنسي الإسباني الكاثوليكي ببشرة بيضاء على غرار المجتمع الموريسكي ذي البشرة السمراء فاللون الأسمر هنا ،وبعيدا عن مسألة ارتباط العرق بلون البشرة، قد يعطي أيضا انطباعا بأن المرء ليس من مكانة اجتماعية مرموقة، فهو مجرد عامل لا يحظى بحياة مرفهة.
………………………………………………………………………………………………………..
بناء اللوحة وأبعادها:
_______________
يمكن تقسيم بناء اللوحة لثلاثة أجزاء: جهة البحر ، جهة البر و الجهة الثالثة الخاصة بالمدينة. مع إلقاء أول نظرة على اللوحة قد تبدو وكأنها شاشة ديناميكية متحركة نظرا للغتها المرئية الإنفعالية النابضة والغير مستقرة. وبوسع المرء ، وهو يتأمّل مجموع مشاهد اللوحة، أن يتخيّل ضوضاء وضجة المكان و أن يخال أصواته الصاخبة.
كما يمكن تقسيم بناء اللوحة باعتماد بعض المشاهد المتمركزة في الوسط ، والتي تقسم الحيّز إلى مناطق متقابلة للتأكيد على الطبيعة الثنائية للموضوع “العنصر الموريسكي الراحل ” و “العنصر القشتالي المتفرج “. رُسِمَت أجزاء وعناصر اللوحة بواقعية شديدة لدرجة أنها لا تبدو مختلفة كثيرا عن الصورة الفوتوغرافية. تم تصوير الأشياء و العلاقات، بصورة واضحة قريبة مما يمكن أن تكون عليه في العالم الحقيقي الواقعي دون الجنوح للفانتازيا أو الرومانسية. تصور اللوحة عملية الطرد عبر تقديم عدة مشاهد مصغرة تختزل الوجود الإنساني إلى مجرد مجموعات و نقط شبحية مصغرة وضائعة ومنتهية لتفسير ظروف وحيثيات الحدث الأكبر : الطرد.
نجح الرسام في دمج المتلقي في بُعد العمق. بحيث تبدو اللوحة وكأنها لا تحتوي فقط على بعدي الطول والعرض وإنما أيضا على بُعد ثالث. بمعنى أن هناك إيحاءا بتتالي وتلاحق المشاهد المرسومة ابتداءا من الأقرب إلى الأبعد عن طريق اللعب بالألوان المضيئة والمظلمة وتحريف أحجام الأجسام.
………………………………………………………………………………………………………
استخدام الضوء والألوان
________________________
تخلد اللوحة عملية الطرد بصيغة ملونة . يأتي الضوء من اليسار نحو اليمين. يزيد اختيار الألوان القاتمة في الخلفية الجبلية والمستوى الأولي للبحر من تمركز الأقسام المضاءة. من الواضح أن الرسّام استخدم طبقات متعدّدة من الألوان والظلال من أجل منح إحساس حقيقي بعملية الطرد ولتكثيف الجوّ الواقعي للمشهد.
سميرة فخرالدين
………………………………………………………………………….
هوامش:
(1) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 163,164,167.
(2) LA EXPULSIÓN DE LOS MORISCOS EN LAS ARTES PLÁSTICAS
José Mª CallejaMaestre
Extractos de una conferencia
[2010]
(3) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 167.
(4) La moda en la Espana del siglo de oro . Primera parte.
(5) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 164.
(6) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 164.
(7) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 162