‏إظهار الرسائل ذات التسميات فنون أندلسية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات فنون أندلسية. إظهار كافة الرسائل

تحليل لوحة “إبحار الموريسكيين من إيل غراو ببلنسية”

 

تحليل لوحة “إبحار الموريسكيين من إيل غراو ببلنسية”




عادة ما تحظى اللوحات التي تتناول موضوعا تاريخيا أو وطنيا أو إنسانيا باهتمام أكبر وتعيش فترة أطول وتجذب جمهورا أوسع ونقدا أغنى وأعمق. والعمل الذي سنقوم بتحليله اليوم يحتوي على كل هذه النقاط الثلاث معا. تتجلى أهمية اللوحة في تخليدها لحدث تاريخي مهم ألا وهو: عملية طرد المورسكيين من ميناء بلنسية . كما أنها تترجم حالة إنسانية و وطنية ، واصفة وبدقة توثيقية عالية ظروف رحيل الموريسكي عن وطنه. رسم اللوحة الرسام بيري أروميغ pere oromig سنة 1613. تنتمي لسلسلة من اللوحات التي رُسمت بأمر من فيليب الثالث نفسه والمعروفة باسم “طرد موريسكيي بلنسية “. تضم المجموعة سبع أجزاء تستعرض جميعها أهم الأحداث التي رافقت عملية طرد الموريسكيين من مملكة بلنسية و مجموع المشاهد التي وقعت خلال تنفيذ هذا القرار السياسي التاريخي والذي يعد واحدا من أهم حلقات القرن السابع عشر. تعتبر المجموعة وثيقة تاريخية وتأريخا مرئيا لحدث الطرد الذي صور الموريسكيين منذ ركوب أمواج البحر الأبيض المتوسط إلى غاية وصولهم لميناء وهران بشمال إفريقيا.
إن نجاح العمل التشكيلي بشكل عام غالبا ما يعتمد على مدى تمكن الرسام من ترجمة ما يدور في أعماق النفس البشرية، في ذلك المخبأ الصغير العميق الكامن بالداخل . أما نجاح اللوحة التاريخية بشكل خاص ، فيعتمد بالأساس على مدى إخلاص الرسام في ترجمة الحقيقة و تصوير الأحداث وفقا لحدوثها الواقعي . تبدأ مغامرة الرسام بالتوجس و المهابة أمام مادة عذراء طاهرة ناصعة البياض وتنتهي مع آخر لمسات الصباغ الفحل. وإذا كنا نستمتع بتلقي وفهم المعلومات المخطوطة على صفحات الكتب ونستوعبها أولا بأول نظرا لتقديمها اللغوي المتأني ، المنظم والتراتبي إلا أن المعلومات التي تصلنا عن طريق الرسمة تتعرى أمامنا في آن واحد مما يجعل منها أحيانا مادة عصية على الفهم، ونسقا تعبيريا عسيرا على التأويل والتحليل والقراءة. لذلك سنحاول في سطور معدودات تحليل محتوى اللوحة على عدة مستويات، والوقوف على بعض تفاصيل وحيثيات عملية طرد الموريسكيين التي كانت أوسع من جلباب اللوحة بكثير.

………………………………………………………………………………………………

السياق التاريخي

…………………
تتطور أحداث اللوحة في حي إيل غراو 
E Grao
 الواقع بشرق بلنسية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط. وتصف إبحار موريسكيي مملكة بلنسية نحو مصيرهم المجهول. “بين سبتمبر 1609 و يناير 1610 يقدر مجموع الراحلين عن مملكة بلنسية بحوالي 117,464 شخص و 120,000 موريسكي تقريبا (…) . كان الكاردينال خوان دي ريبيرا الرجل الأول وراء قرار الطرد . وقد ألقى “خطاب شكر لله” في كتدرائية بلنسية عند إعلان القرار. (…) ثم قال بأن كل المصاعب تهون أمام القضاء على هذه البدرة الخبيثة (يعني المسلمين) الموجودة بيننا. ولم يعش  (…) طويلا بعد إنجاز رغبته ، فمات غما في 6/1/1611 لعدم تمكنه من الإحتفاظ بكل الأطفال وتنشئتهم على الدين النصراني(…). في 21/9/1609 اجتمع الملك مع أعضاء مجلس الدولة والنبلاء وكبار رجال الدولة ، وفي اليوم التالي أعلن قرار الطرد ، وهذه أهم بنوده: ابتدأ القرار بالإشارة إلى خيانة الموريسكيين واتصالهم بأعداء اسبانيا ، وفشل كل الجهود التي قامت بها الكنيسة لتنصيرهم ، لذلك استقر رأي الملك على طردهم إلى “بلاد البربر” (شمال افريقيا) وتقرر إخراجهم جميعا من مملكة بلنسية ، رجالا ونساءا وأطفالا،خلال ثلاثة أيام. وإذا عثر على أحدهم بعد هذه المهلة، يقبض عليه ويجرد من كل أمتعته، وإذا قاوم يقتل. وعلى موريسكيي بلنسية في ظرف الايام الثلاثة ، المكوث في ديارهم في انتظار مسؤولي الدولة الذين ينفذون الأمر. وقضى القرار بالإعدام على كل من يخفي مال الموريسكيين. ولم يسمح للموريسكيين إلا بحمل أموالهم المنقولة التي يستطيعون حملها شخصيا، وكل من يحاول حمل أكثر من ذلك يعرض نفسه لعقوبة الإعدام. أما الأموال التي لا يستطيعون حملها فتسلم للنبيل الذي كان الموريسكي تابعا له. ويستثني القرار من الطرد ستة أشخاص من كل مئة لتعليم مهنهم للنصارى ، على أن يكونوا من أكثر الموريسكيين إخلاصا للنصرانية وأكبرهم سنا (وقد ألغي هذا البند فيما بعد). ويلغي القرار الأمر السابق بعدم الإساءة للموريسكيين بعد مهلة الثلاثة أيام. ويسمح لعشرة من الذين سافروا في الفوج الأول بالعودة لإخبار باقي الموريسكيين بالمعاملة التي لاقوها في رحلتهم من طرف ممثلي الدولة. ويسمح القرار بإبقاء أبناء الموريسكيين الذين يودون ذلك شرط موافقة أوليائهم. كما يسمح بإبقاء الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ست سنوات والذين هم من أب نصراني أو أم نصرانية، وتبقى معهم أمهم إن كانت موريسكية ويطرد الأب الموريسكي. كما استثنى القرار من الطرد الموريسكيين الذين كفوا عن الإختلاط بالجماعات الموريسكية منذ أكثر من سنتين، واندمجوا في المجتمع النصراني”. (1) تعكس اللوحة اهتماما كبيرا بالرغبة في التوثيق الدقيق للحدث، فبالإضافة لعناصر وشخصيات اللوحة، تضم معلومات توثيقية دقيقة نذكر من بينها استحضار الرسام لاسم المكان الذي أقلعت منه القوارب
: El Grao
. واسم بعض الشخصيات المؤثرة في المجتمع البلنسي و المسؤولة عن عملية الطرد
( El Marqués de Caracena)
 ماركيز كورسينا وهو الذي أصدر في مايو لسنة 1611 قرارا إجراميا للقضاء على المتخلفين من الموريسكيين عن الطرد قال فيه، وفقا لما ذكره الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني في كتاب انبعاث الإسلام في الأندلس ص. 166:” نَهَبُ لكل من يخرج في متابعة هؤلاء المسلمين : ستين ليرة ثمن كل موريسكي يؤتى به حيا ، وثلاثين ليرة ثمن رأس كل مورسكي يقتل. ولمن يأتي بموريسكي حيا الحق في الإحتفاظ به كعبد من عبيده ، هبة منا إليه “. وهذا ما يفسر بقاء عدد كبير من الموريسكيين في إسبانيا كعبيد. كما يتوزع في أعلى اللوحة نصين قصيرين على اليمين وعلى الشمال يمنحان كتابيا معلومات دقيقة عن عملية الطرد.
…………………………………………………………………………………………………

مضمون اللوحة

………………………………….………

إن مضمون اللوحة قويّ ولا شكّ. تزدحم الرسمة بعدة مشاهد وشخصيات وتفاصيل كلّها ممّا يسترعي الإهتمام نذكر من بينها:

1

مشهد الشيخ المسن:

_________

يقدم الرسام بالجهة اليسرى للوحة شخصية شيخ محمول بين الأيدي. يتعلق الأمر بموريسكي مسن يحتضر بين ذراعي حامليه ، لم يرحم ضعفه قرار طرد الموريسكيين الصادر عن فيليب الثالث سنة 1609 . لعل المشهد يخلد ما ذكره أشد أعداء الموريسكيين تطرفا، الراهب و المؤرخ البلنسي خايمي بليدا ، ويعد واحدا من أهم مناصري قرار طرد الموريسكيين، في كتابه Crónica de los moros de España :

حيث تحدث عن شيخ موريسكي كان يلفظ أنفاسه الأخيرة في لحظات رحيله الأخير عن بلنسية ، كهل في مرض ومحنة وضعف وفوق هذا وذاك، يغدو في اغتراب. شيخ مسن شابَ فؤاده وما في الشيبِ عابُ. طلب من حامليه التوجه به للقارب وإن كان على يقين بأن موعد رحيله عن الدنيا قد حان . وذلك ما حدث بالفعل ، فما أن وصل للقارب حتى توفي بعد أن سُمع يتمتم اسم محمد (ص) . فألقوا به في البحر بعد ذلك.( (2

2- أب موريسكي يودع ابنته:

_________________

في المستوى الأول للوحة على الجانب الأيسر، يتطور مشهد توديع أب موريسكي لابنته الصغيرة للمرة الأخيرة . جسدٌ مقعدٌ بتوديعٍ لا يروم لنهضة . ومركبٌ خلفه في الإنتظار ينتهي و انحناءات الأب في تحية ابنته لم تنتهي. لا تبدو الفتاة حزينة على فراق والدها. تبدو تحيتها ثابتة وباردة نوعا ما كمعظم وجوه شخصيات اللوحة (خاصة إذا ما قارنا اللوحة بباقي أعمال الرسم التي تطرقت لموضوع طرد الموريسكيين). لا يجب أن ننسى أن اللوحة رُسِمَت بأمر من فيليب الثالث، إذن فالهدف هنا ليس عرض الرحيل الموريسكي وفراق الآباء عن أبنائهم بصورة حزينة ، وإنما تخليد حدث سياسي و تلميع قرار الطرد وعرضه بإيجابية. فاختطاف الطفلة من والدها هنا يعتبر قرارا “إيجابيا” إنه بمثابة إنقاد للطفلة من الإسلام / “الكفر” . “كان ريبيرا يرغب في الإحتفاظ بأطفال المسلمين الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة لتربيتهم على النصرانية ، لكن مجلس الدولة قرر الإحتفاظ فقط بالأطفال دون ست سنوات من العمر لكي لا يحتفظوا بأي ذكرى للتربية الإسلامية بعد بقائهم . وبعدما رفض أهلهم التخلي عنهم ، أخد النصارى كبيرهم وصغيرهم بما فيهم زوجة نائب الملك ، يختطفون أبناء المسلمين لإنقاذهم من “الكفر” (3). مثيرة للإنتباه ملابس الطفلة أمام بساطة المرأة الموريسكية الراحلة الملتزمة بملابسها التقليدية المحافظة , والمتمسكة بحجابها. كما يتكرر مشهد توديع الآباء لأبنائهم عدة مرات في اللوحة.

 3-

الطبقة العليا للمجتمع الكاتوليكي البلنسي تترأس عملية الطرد:

______________________________________

تتوزع على الضفة مراكب تنقل الموريسكيين المطرودين نحو وجهتهم الأخيرة، تحت إشراف عناصر من الجيش، الطبقة العليا للمجتمع البلنسي وبعض الشخصيات المسؤولة عن تنفيذ عملية الطرد. تحتل هذه الشخصيات يمين المستوى الأول للوحة. إن التفاصيل الصغيرة في هذا الجزء لها أهميّتها. شكل القبّعات والملابس و اللحى والعصي والأحذية وكذلك إيماءات الجسد، كلّها تحمل دلالات الطبقة التي ينتمي إليها كلّ شخص كما تتضمّن معاني السيادة والخضوع التي يفرضها التفاوت الاجتماعي في المنزلة والطبقة. لم تكن الموضة في المجتمع القشتالي في القرن السابع عشر أمرا تافها أو غير ذا أهمية وإنما كان الهندام هاجسا لتقييم الشخص ولتحديد مكانته الإجتماعية. على سبيل المثال، تتجلى هذه الظاهرة بوضوح في رواية “لاثريو دي تورميس”(بالإسبانية Lazarillo de Tormes ) وهي رواية إسبانيّة مجهولة المؤلف، و لوحة ساخرة لمجتمع ذلك الوقت الذي يفتقر للرحمة وتتفشى فيه الرّذائل وينتشر فيه النفاق خاصةً بين رجال الدّين المسيحيّين والمتديّنين. وتختلف الفرضيّات حول مؤلفه، فيرى البعض أنه من المؤيدين لأفكار الإراسموسيّين، وهو ما دفع محاكم التّفتيش إلى حظرها ثم السّماح بنشرها في وقت لاحقٍ بعد تنقيحها. ولم يعاد نشر العمل بشكل كامل حتى نهاية القرن التاسع عشر. يتجلى هاجس الإهتمام بالإطلالة الخارجية عند ملاقاة لاثارو ,الذي يعاني الفقر و الجوع بسيده الجديد . وعندما رآه لاثارو أول مرة، ومن خلال هندامه الأنيق والمرتب ، ظنّ أن القدر قد ابتسم في وجهه أخيراً فقاده لفارسٍ نبيل غنيّ وفير الطعام، فأخذت لاثرو أناقة ثياب الفارس وهيئته. غير أنه لم تدم تلال الطعام وعيش الرخاء التي انتظرها سوى دقائق فتحطّم كل شيء، وتجهّم وجهه بمجرّد أن دخل منزل الفارس حيث تبخرت أحلامه وذهبت أدراج الرياح، فقد استيقظ من أوهامه على منزل يتبعثر في أنحائه الفراغ، ولا يحوي سوى سرير مهترئ يأوي إليه الاسكوديرو ليلاً لينام. عرِف منه بعد ذلك لاثارو أنه لا يملك حتى فتات الخبز، وأن كل ما يملكه هو أناقته وهيئته النبيلة التي تذكّره بأمجاده، تلك الأمجاد التي يفضّل الموتَ جوعا على أن يلوّثها ويلطخها باستجداء قرشٍ أو رغيف خبز واحد.
يمثل هذا الجزء من اللوحة مثالا حيا لإسبانيا تلك الفترة حيث أن الملابس لم تكن أمرا نفعيا أو وظيفيا وإنما دلالة على المكانة الإجتماعية، كما شكلت أحيانا إحالة على مهنة الشخص ، فالطبيب اعتاد أن يلبس خاتما براقا في إبهامه وبرنسا. أما القضاة فتميزوا برداء طويل خاص وقلنسوة مختلفة الشكل.و لم يكن للجند لباسا رسميا يعرفون به ولكن تميزوا بالشارب الضخم ، السيف، الخناجر، البنادق، وقبعات الريش (4). “وقد اختلف موقف النبلاء من الموريسكيين المطرودين بعد أن ساندوهم لمدة قرون . فمنهم من عاملهم في محنتهم أحسن معاملة ، وحرسهم إلى أن ركبوا السفن ، ومنهم من عاملهم بقساوة ونهب أموالهم، ككونت قسطنطينة الذي سلب الموريسكيين المهجرين من منطقتهم أموالهم وملابسهم الخاصة” (5).

4-

رموز دينية لشرعنة جريمة الطرد

_____________________

يرمز كل من تمثال الصليب الضخم الذي يتوسط الساحة و رسوم الصليب التي صُوِّرَت لأكثر من مرة على الملابس والمعدات الحربية، للحضورالكنسي. عادة ما تُعرِّضُ سياسة الإحتلال الشعوب المُستعمَرة للقهر تحت مسميات ثورية نبيلة ووهمية. فتبحث عن مبررات سامية زائفة وخادعة تُبرر من خلالها الجرائم المُقترفة، ومن بينها التنصير. إذ لطالما استُخدِمَ الدين هو الآخر لخدمة السلطة. يعكس تكرار تصوير الرموز الدينية المسيحية في فضاء اللوحة رغبة في شرعنة الجرائم التي اقترفها المستعمر الإسباني ضد أفراد المجتمع الموريسكي من طرد وسرقة و قتل و واستغلال وتحقير.

مثير للإنتباه أن اللوحة وإن اندرجت تحت تيار واقعي إلا أنها أهملت التطرق لمجموع عمليات السرقة والنهب والقتل التي تعرض لها الموريسكي والتي تورط فيها حتى أفراد الجيش الإسباني ، واكتفت فقط ببعض التلميحات المنمقة للخطف الذي تعرض له الأطفال الموريسكيون . لعل الرسام تستر على هذه الجرائم والفضائح لتلميع صورة الطرد خاصة أن اللوحة رسمت بأمر من فيليب الثالث.

تطلع الموريسكيون لطرد إنساني رحيم “لكن أملهم في الخروج بسلام لم يتحقق ، إذ لم يرحمهم عدوهم، فصاحبت عمليات الطرد جرائم وفظائع لاتصور.فقد أمرتهم السلطات بحمل ما استطاعوا من أمتعتهم ، على ظهورهم . ثم عندما أخذوا يبيعون مواشيهم ودوابهم ومنتوجاتهم الزراعية، من حبوب وزيوت وغير ذلك ، للنصارى بأبخس الأثمان ، منعوا وأعطي ذلك للنصارى. ثم تكونت في الطرقات عصابات من النصارى ، تسطوا عليهم وتجردهم مما يحملون من حلي ومال ويقتلون منهم من شاؤوا ، وشارك في النهب والسبي والقتل أفراد الجيش الذين يحرسونهم (6).

 

 

5-

دواب، عربات ، قوارب و سفن تنقل الموريسكيين لمنفاهم الأخير:

_________________________________________________

“جمعت سفن إيطاليا في جزيرة ميورقة (الجزر الشرقية) حيث يسهل توجيهها إلى موانئ الترحيل بمملكة بلنسية … فلم يصل صيف 1609 حتى اجتمعت خمسون سفينة في ميورقة و 4000 جندي في مملكة بلنسية ، بالإضافة لحرسها وخيالة قشتالة لمراقبة حدودها البرية ، وقوات المليشيا. وكلف الأسطول الإسباني في المحيط الأطلسي بمراقبة شواطئ شمال افريقيا بقيادة أمير البحر أوكندو “(7).

 

يزدحم الموريسكيون في فضاء اللوحة داخل عربات ضيقة تقودهم نحوالضفة حيث السفن والقوارب بانتظارهم . لم يصلوا جميعا بسلام لمنفاهم الأخير . أغرق أصحاب السفن النصارى كثيرا من الموريسكيين الذين نقلوهم ، لسلب أموالهم.

6-

أحصنة للإسبان ودواب للموريسكيين:

_________________________

مثير للإنتباه التباين الحاد الحاصل على المستوى الأول للوحة بين يمين الرسمة “نبلاء المجتمع الإسباني” ويسارها “العنصر الموريسكي الراحل”. لكلّ عنصر فضاؤه الوجودي الخاص والمستقل. ونادرا ما ينصهر أحدهم في الحيز الوجودي للآخر.

إذا كان الكلب أفضل صديق للإنسان، فالذي دون التاريخ أكيد كان حصانا. كان للحصان أثر براق في تاريخ البشرية. فهو حامل المستكشفين إلى أبعد بقاع الأرض ومؤنس الرحّالة ونصير الجيوش. و تلميعا للمكانة الإجتماعية للطبقة المشرفة على عملية طرد الموريسكيين، اختار الرسام أن يطل بعض أفرادها من أعلى الأحصنة.

بينما تظهر جل الشخصيات الموريسكية كما لو كانت مشدودة إلى الأسفل ،أحيانا بفعل ثقل متاع أو حركة أو توديع ، وأحيانا أخرى بفعل قوّة استعلائية خفية تخدم إطلالة نبلاء المجتمع الكاثوليكي. كما أن جميع الدواب التي يستعين بها الموريسكي تبدو في وضع منحني و مطأطأة الرأس.

تقدم معظم شخصيات المجتمع البلنسي الإسباني الكاثوليكي ببشرة بيضاء على غرار المجتمع الموريسكي ذي البشرة السمراء فاللون الأسمر هنا ،وبعيدا عن مسألة ارتباط العرق بلون البشرة، قد يعطي أيضا انطباعا بأن المرء ليس من مكانة اجتماعية مرموقة، فهو مجرد عامل لا يحظى بحياة مرفهة.

………………………………………………………………………………………………………..

بناء اللوحة وأبعادها:

_______________

يمكن تقسيم بناء اللوحة لثلاثة أجزاء: جهة البحر ، جهة البر و الجهة الثالثة الخاصة بالمدينة. مع إلقاء أول نظرة على اللوحة قد تبدو وكأنها شاشة ديناميكية متحركة نظرا للغتها المرئية الإنفعالية النابضة والغير مستقرة. وبوسع المرء ، وهو يتأمّل مجموع مشاهد اللوحة، أن يتخيّل ضوضاء وضجة المكان و أن يخال أصواته الصاخبة.

كما يمكن تقسيم بناء اللوحة باعتماد بعض المشاهد المتمركزة في الوسط ، والتي تقسم الحيّز إلى مناطق متقابلة للتأكيد على الطبيعة الثنائية للموضوع “العنصر الموريسكي الراحل ” و “العنصر القشتالي المتفرج “. رُسِمَت أجزاء وعناصر اللوحة بواقعية شديدة لدرجة أنها لا تبدو مختلفة كثيرا عن الصورة الفوتوغرافية. تم تصوير الأشياء و العلاقات، بصورة واضحة قريبة مما يمكن أن تكون عليه في العالم الحقيقي الواقعي دون الجنوح للفانتازيا أو الرومانسية. تصور اللوحة عملية الطرد عبر تقديم عدة مشاهد مصغرة تختزل الوجود الإنساني إلى مجرد مجموعات و نقط شبحية مصغرة وضائعة ومنتهية لتفسير ظروف وحيثيات الحدث الأكبر : الطرد.

نجح الرسام في دمج المتلقي في بُعد العمق. بحيث تبدو اللوحة وكأنها لا تحتوي فقط على بعدي الطول والعرض وإنما أيضا على بُعد ثالث. بمعنى أن هناك إيحاءا بتتالي وتلاحق المشاهد المرسومة ابتداءا من الأقرب إلى الأبعد عن طريق اللعب بالألوان المضيئة والمظلمة وتحريف أحجام الأجسام.

 

 

 

………………………………………………………………………………………………………

استخدام الضوء والألوان

________________________

 

 

تخلد اللوحة عملية الطرد بصيغة ملونة . يأتي الضوء من اليسار نحو اليمين. يزيد اختيار الألوان القاتمة في الخلفية الجبلية والمستوى الأولي للبحر من تمركز الأقسام المضاءة. من الواضح أن الرسّام استخدم طبقات متعدّدة من الألوان والظلال من أجل منح إحساس حقيقي بعملية الطرد ولتكثيف الجوّ الواقعي للمشهد.


سميرة فخرالدين

 

………………………………………………………………………….

هوامش:


(1) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 163,164,167.

(2) LA EXPULSIÓN DE LOS MORISCOS EN LAS ARTES PLÁSTICAS

José Mª CallejaMaestre

Extractos de una conferencia

[2010]

(3) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 167.

(4) La moda en la Espana del siglo de oro . Primera parte.

(5) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 164.

(6) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 164.

(7) انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 162

فن الفلامنكو الموريسكي، عندما يَصِلُ الانسان بخيبته وفجائعه حد الرقص

 

فن الفلامنكو الموريسكي، عندما يَصِلُ الانسان بخيبته وفجائعه حد الرقص  




يلفت انتباه كل زائر للأندلس تواجد فرق من الهواة الذين يرقصون الفلامنكو في قلب الأماكن السياحية. فرق بين الهواة الذين يرقصون للمتعة وبين آخرين اتخذوا منه وسيلة لكسب المال.ت ارة على بُعد بضعة أمتار من قصر إشبيلية وتارة على مَطل القديس سان نيكولاس بغرناطة.

تتلوى أطرافهم المفطومة على رنين القيثارة لتعبّر عن خيبة وجراح. لتدندن كلمات في الحب راب عشقها فانفجر على صفوف المتفرجين. تعارك الراقصات الهواء بأيديهن و تعَنِّفنَ الأرض بقسوة بأرجلهن. قد تعبّر كلماتهن عن الحب أحيانًا ولكن أداء الرقصة الصلب والغناء القوي والخشن يعطي انطباعا أنك أمام معركة أو ملحمة شامخة.
عادة ما ترتبط فكرة الرقص والغناء بالسعادة والفرح والنشوة ولكنها قد ترتبط أيضا بالألم والمعاناة والحسرة والخيبة. فالمذبوح عند الإحتضار يرقص. والماء عند الغليان يتطاير ويرقص. وعصفور القفص يبثُ حنينه للحرية فيُغني ويرقص. فالرقص والغناء هما أحيانًا أبلغ تعبيرًا عن الألم والحسرة والخيبة من البكاء والنحيب والصراخ والعويل والندب والنواح والنشيج.

يعتبر فن الفلامنكو من الفنون النادرة التي تعبر عن الألم والمعاناة حيث تتكاثف صرخات المؤدِّين المؤلمة لتنسجم مع تصفيقات المتفرجين المتناغمة وشهقات إعجابهم التي تستجدي من الفؤاد “أُولِي أُولِي
/ Olé Olé”
كلمة يعود أصلها لكلمة “الله” تغيَّر نُطقها مع الزمن لتصبح “أُولِي أُولِي”، عبارة تستعمل للتعبير عن الإعجاب. يتبادل المؤدين والمستمعين الشكوى من القلب للقلب. يغنون، يرقصون، ينتفضون، يتأوهون يلتحمون ويتلاحمون لساعات ثم يتركون المكان ويرحلون.

عادة ما يرتبط اسم الفلامنكو بالرقص وهذا غير صحيح، فالفلامنكو مزيج من الرقص والغناء والعزف. وُلد بالأندلس في القرن الثامن عشر من الموسيقى و الرقص الأندلسي. صيغت عدة نظريات حول أصوله ولكن تبقى أطروحة أصوله الموريسكية هي الأقوى.

تم تصنيف الفلامنكو كفَنٍ من التراث الثقافي المعنوي للإنسانية. الغناء، العزف والرقص إنها أوجه الفلامنكو الثلاث. تجاوزت شعبية الفلامنكو منطقة الأندلس لتصل إلى بلدان أمريكا اللاتينية مثل غواتيمالا، كوسطا ريكا، باناما، إيل سالفادور وبويرتوريكو، حيث انتشرت فرق وأكاديميات مخصصة للفلامنكو.

حسب بلاس إنفانتي أب الهوية الأندلسية، إن اسم فلامنكو مُستمد من عبارة “فلاح من غير أرض” أو “فلاح منكوب”. حيث اندمج المجتمع الموريسكي كأقلية ثقافية ضمن مجتمع آخر سائد. وبالتالي ظهر هذا الفن الموريسكي كمرتع لثقافة تُعاني التهميش فكان الرقص والغناء أداة للتعبير عن حرقة و معاناة من حالات القهر التعسفي التي كانوا يعيشونها. كما تُقدَّم فرضيات أخرى ترجع أصل اسم الفلامنكو لعبارة “فلاح منكو”و بالتالي “فلاح منكم”.

الفلامنكو ليس فنًا فقط بل هو جزء من تراث وتاريخ وهوية الكيان الأندلسي. إنه ملحمة تروي تاريخ إنسان طبع بقوة بصمات ثقافته على هذه الأرض. فن يروي كيف تخبطت جيوش الحنين في الطين، كيف وصل الموريسكي بخيبته وفجائعه حد الرقص، كيف استجدى صوته من آهات العذاب ثباتًا ليرقص رقصًا لا يجيد الرقة، يرقص رقصًا لا يجيد إلا الخشونة والألم.



سميرة فخرالدين


كيف أثر التراث الأندلسي في الأغاني الإسبانية الشعبية والمعاصرة؟



كيف أثر التراث الأندلسي في الأغاني الإسبانية الشعبية والمعاصرة؟



 

تعد الموسيقى الأندلسية، باعتبار مميزاتها الخاصة، جانبًا ثقافيًّا مهمًا لفهم الحضارة الإسلامية في جانبها الإسباني- العربي. وكما لعبت الموسيقى دورًا في بلاط الأمويين في دمشق، والعباسيين في بغداد، فقد انتقلت بعض ملامح موسيقى المشرق إلى الأندلس لتُضيف نكهة مميزة لموسيقى شبه الجزيرة الأوروبية.

حظيت الموسيقى، حسب ابن رشد، باهتمام كبير خاصة في إشبيلية، كما كان للتصوف الإسلامي، خاصةً الذِكر، دور في الربط بين إنشاد القصائد، وتحقيق انسجام الذات مع الكون بغية تأمل الواقع الغيبي، وتحقيق السمو الروحاني.

وما يزال الإسبان يرددون إلى يومنا هذا أغاني أندلسية شعبية تعود إلى فترة الحكم الإسلامي للأندلس، سيعمل هذا التقرير على استعراض أهمها.


«ألا عَلِمَ العالِمُون»

تُعتبر أغنية «ألا عَلِمَ العالِمُون» من الأغاني التراثية الأندلسية الشعبية التي لا زال الإسبان ينشدونها إلى يومنا هذا، يردد كل المغنيين الإسبان -الذين يتداولون هذه الأغنية الأندلسية اليوم- بين مفرداتها الإسبانية تعبير «alima laalimoun- ألا عَلِمَ العَالِمُون» العربي الأندلسي.

يتداول الإسبان تعبير «ألا عَلِمَ العَالِمُون» في هذه المقطوعة الغنائية الشعبية تمامًا كما ينطق باللغة العربية دون فهم معنى التعبير وإدراك أصله الأندلسي العربي. العبارة تحيل إلى لعبة تراثية شعبية لا زال أطفال إسبانيا يلعبونها اليوم وتسمى «alalimón» المعروفة شعبيًّا بصيغة «a la limón». والتي تعود في الأصل إلى عبارة «ألا علم العالمون».

ويُعرِّف معجم أكاديمية اللغة الإسبانية مصطلح «alalimón» بوصفه لعبة يتداولها الأطفال في إسبانيا، إذ يتوزع الأطفال على مجموعتين، ويمسكون بأيدي بعضهم البعض ويقفون بشكل مقابل وجهًا لوجه، ثم يتنقلون ذهابًا وإيابًا مؤدين مقطوعة تبدأ بعبارة «alalimón»، وهو تمامًا الشيء نفسه الذي يقوم به الأطفال الذين تذكرهم الأغنية، يرقصون ويصفون بحسرة حال الجارة العانس مع ترديد عبارة «alalimón» مع بداية كل شطر غنائي.

ولكن لماذا يتم تقديم الأغنية عن طريق الربط بين كلمات إسبانية غريبة عن السياق؟ فتُقدم أحيانا بصيغة «A la lima y al limón»، وأحيانًا أخرى بصيغة «A la lima y alimón»؟ وما علاقة «lima» والتي تعني في المعاجم «أداة» وتحيل أيضًا إلى «فاكهة»، بمصطلح «alimón» والذي يعني فعل شيء معًا أو بتعاون بين شخصين؟

الأمر ليس سوى محاولة من ناطق القشتالية إيجاد صيغة إسبانية قريبة في النطق للعبارة العربية المبهمة. وحسب دراسة للدكتور فدريكو كورينتي، فإن الأمر يتعلق بتعبير «ألا عَلِمَ العالمُون» الذي كان متداولًا من طرف المنادي والدلال بشكل رسمي داخل المجتمع الأندلسي.

وفي دراسة أخرى توضح الدكتورة يولاندا كونغوسطو مارتين أن أقدم توثيق للمصطلح بوصفه لعبة منتشرة في إسبانيا يعود إلى سنة 1872. ثم ظهر بعد ذلك موثقًا بصيغ صوتية وخطية مختلفة (A la limón, alalimó, alalimón, alimón, ala limón). واللعبة ذائعة الصيت أيضًا في أمريكا اللاتينية؛ حيث تُعرَف بأسماء تقريبية محرفة عن التعبير العربي الأصلي فهي «Al animó» في كوبا، و«Alé limón» بتشيلي.

أنشودة «أتى إليه بوم»

يردد أطفال الإسبان عبارة «أتى إليه بوم- até iléh búm» العربية الأندلسية في هذا النشيد تمامًا كما تنطق باللغة العربية، دون أن يدركوا مغزاها، أو ماذا تعني، أو من أي اللغات هي. إذ يعتبر نشيد «السيد القط» الذي ترد فيه العبارة من أناشيد الأطفال الأكثر شعبية في إسبانيا.

تستعمل عبارة «أتى إليه بوم» لازمةً تتردد مرات كثيرة في النشيد لتوحي بأن رؤية القط للبوم كانت سببًا غير مباشر لكل مصائبه. نعلم أن للبوم رمزية خاصة في الثقافة العربية والمتعلقة بخرافة ارتباط البوم بالشؤم وقبح الصورة والصوت. معنى النشيد واللازمة العربية الأندلسية دفعا المستعرب الإسباني فدريكو كورينتي إلى الإقرار بأن السياق الفلكلوري للنشيد هو بالتأكيد سياق عربي.

«فتيات جيان المسلمات»

 

ثلاث فتيات مسلمات رائعات

كُنّ يذهبن لجمع الزيتون

فيجدنه قد جُمِع في جيان.

عائشة وفاطمة ومريم.

 

يرى الباحث المغربي هشام زليم أن أغنية «Las morillas de Jaén فتيات جيان المسلمات»، المعروفة أيضًا بأغنية «عائشة وفاطمة ومريم»، هي من أغاني التراث الأندلسي القديم في إسبانيا. وقد أعاد الأديب الأندلسي الشهير فدريكو غارثيا لوركا توضيبها ونشرها. وهي أغنية متجذرة في وجدان أندلسيي إسبانيا، تصف الحالة النفسية المزرية للمورسكيين (الأندلسيين الذين أجبروا على اعتناق المسيحية، لكنهم لم ينسوا أبدًا ماضيهم المسلم).

«بحّارٌ أنا في الحب»

 

 

بَحَّارٌ أنا في الحب.

أُبْحِرُ في خضمه العميق،

دون أمل الوصول

إلى ميناء ما.

بَحَّارٌ أنا في الحب.

 

وما زال الإسبان يتدولون أغاني من أصل يهودي أندلسي، والمسمى سفردي، نذكر من بينها أغنية «بحّارٌ أنا في الحب»:

عندما تغنى كارلوس كانو بآخر ملوك غرناطة

 

يا صِبْيَة القرية!

يا سنابل ناعمة طرية!

انطلقوا!

أخبروا الأرض أن المسكين أبا عبد الله

يحن إليها كل صباح.

يحن إليها مع إشراقة كل صباح!

يحن لترابها مع إشراقة كل صباح!

*مقطع من قصيدة «الملك الصغير»

 

أدى المغني الإسباني كارلوس كانو قصائد مترجمة إلى الإسبانية للملك الأندلسي الشاعر المعتمد بن عباد، وللشاعر الغرناطي فدريكو غارسيا لوركا، وقصائد أخرى نظمها بنفسه للتغني بغرناطة الإسلامية. يؤكد الكاتب صبيح صادق في مقال «غرناطة تعلن الحداد على كانو الذي غنى لأندلس العرب» مدى حنين كارلوس كانو للأندلس الإسلامية.

هذا الأمر قد انعكس في الكثير من أغانيه. ففي «على ضفاف النهر» يشير إلى اعتماد الرميكية زوجة المعتمد ملك إشبيلية: «مَن زهرة الدفلى البيضاء هذه التي تغني على ضفاف النهر؟ شفتاها سمراوان شمس تختفي خلف الخمار يا رميكية يا مليكتي، هلا تحبيني، انظري فها أنا أعيش حياتي كي أكون عبدًا لحبكِ، عربية، عربية، عربية، آه يا ملكتي العربية».

وقال في أخرى تحمل عنوان «في غرناطة»: جاءوا ثائرين فحرقوا الغابات، وظل ميتًا في الحجرات ابن أمية الله أكبر، حي على الصلاة. وكتب كانو مرة «إذا كانت كلمة (الحزن) لم تأخذ شكل حروفها هذه، فإنها بلا شك كانت ستأخذ شكل الكلمات التي تُعبر عن الحزن وهي كلمة (عبد الله)». اُعجب كانو أيضًا بشخصية المعتمد ملك إشبيلية، وقد علق عام 1986 على أغنيته «الملك المعتمد يقول وداعًا لإشبيلية»: «إن الأغنية تتحدث عن حب المعتمد العظيم، ففي تلك الفترة اكتشفت هذا الملك باعتباره شاعرًا فذًّا حكم إشبيلية في القرن التاسع».

وفي إحدى جولاته في المغرب طلب الجمهور منه أن يغني باللغة العربية، وهو لا يتكلم العربية، لكنه يشعر بأن غرناطة عربية، وأنه من هذه المدينة فقال لهم: «عفوًا، لم أتكلم بهذه اللغة (العربية) منذ 500 سنة، لقد نسيت لغتي». تأثر كارلوس كانو كثيرًا بشخصية عبد الله الصغير، آخر ملوك غرناطة، فأنشد هذه الكلمات للتعبير عن مدى حبه وتعاطفه مع الشخصية، التي نُبِذت دون وجه حق في الثقافة العربية:

النكهة الأندلسية في أغاني باكو إبانييث

ألهمته صورة فتاة أندلسية ترتدي السواد إلى طرح أولى أغانيه سنة 1956، إذ تغنى بقصيدة «الطفلة الأجمل»، للشاعر والكاتب المسرحي الإسباني القرطبي لويس دي جونجورا. وقد أدى سنة 1964 مجموعة قصائد لجونجورا وفدريكو غارسيا لوركا. وسرعان ما تحولت أغنية «الطفلة الأجمل» إلى مادة تعليمية مُعتَمَدة أكاديميًّا من طرف أساتذة اللغة والأدب الإسباني ودعاة التحرير والتعايش الثقافي.

إنه فرانسيسكو إبانييث غوروستيدي الملقب: باكو إبانييث، وهو فنان إسباني، وَهَبَ جل مسيرته الفنية للتغني بقصائد كلاسيكية وأخرى معاصرة لأدباء من إسبانيا ومن أمريكا اللاتينية. من خلال تأدية قصائد من الشعر الكلاسيكي، نَقَلَ للعالمية أفكارًا، واهتمامات، وهمومًا شَغَلَت الإنسانية. حوَّل القصائد إلى رموز فكرية موسيقية مشخصة بأنغام بسيطة، ليزود الإنسانية بدراما وجدانية مُتَخَيَّلة ومتحررة من كل ما هو مادي، ومرئي، وملموس.

تأثر باكو إبانييث بمؤلف الأغاني الفرنسي جورج براسانس، وبموسيقى المغني والشاعر والكاتب الأرجنتيني أتاهوالبا يوبانكوي، اللذين شكلا مرجعية رئيسية لتكوينه الفني والأيديولوجي. كما تأثر بحركة الوجودية، تيارًا فلسفيًّا وجملة من الاتجاهات والأفكار المتباينة، التي تعد الفرد صاحب الفكر، والحرية، والإرادة، والاختيار.

بما أن الطابع الصوتي هو بالنسبة للموسيقى كاللون في التصوير، فلقد تمتع باكو إبانييث بصوت شجي. التقى في باريس سنة 1970 بالشاعر بابلو نيرودا. طلب منه تأدية قصائده قائلًا: «عليك أن تُغنِّي قصائدي، صوتك مخلوق لتأدية أشعاري».

تأثر المجتمع الإسباني بأغاني باكو؛ إذ لُقِّب بـ«صوت إسبانيا الحر» وأخد طلاب الجامعات الفرنسية بالتشبه به، واتخاذه رمزًا نضاليًا. تعرض باكو بدوره للقمع الفكري الذي تميزت به فترة حكم فرانكو، فمنعت الحكومة الإسبانية أغانيه سنة 1971، وراقبت تحركاته. الأمر الذي دفعه للسفر في تلك الفترة إلى بلدان بأمريكا اللاتينية. ومع وفاة فرانكو سنة 1975 رُفع الحظر عن أغانيه التي ظلت ممنوعة في باريس لفترة أطول.

رشح لجائزة الفنون والآداب سنة 1983 و1987. رفض تسلم الجائزة في المرتين وقال عبارته الشهيرة: «يجب على الفنان أن يكون حرًّا في الأفكار التي يدّعي أنه يدافع عنها. مع أول تنازل تفقد جزءًا من حريتك». كما رشح سنة 1998 لجائزة جرالد برنان اعترافًا بمساره في الدفاع عن الحرية وتخليد الشعر، وبدوره في التوعية بضرورة استقلال السياسة عن الاقتصاد والثقافة. إلا أنه، نهجًا لتقليده ولقناعاته المُعرضة عن تسلم أي جائزة، رفضها هي الأخرى.

نستعرض فيما يلي بعض أغانيه المعروفة بنكهتها الأندلسية مترجمة للغة العربية:

غنائية «للذي لم يذهب يومًا» إلى غرناطة للشاعر رافائيل ألبرتي، ويقول في مطلعها:

 

يا لبُعدِها عبر البحار، عبر القرى وعبر الجبال!

شموس أخرى تُعاين شيب رأسي.

لم أذهب أبدًا إلى غرناطة.

شعر أبيض، سنوات مفقودة.

أريد العثور على الطرقات العتيقة الممحوة.

فأنا لم أر أبدًا غرناطة.

 

 

أنشودة «الفارس» للشاعر الغرناطي فدريكو غارسيا لوركا:

 

فرسٌ أسود، قمرٌ كامل،

وحبات زيتون بالزَّاد.

وإن كنتُ أعْرفُ الممرات،

لن أصِلَ أبدًا لقرطبة.

 

بعيدًا عن الأندلس، أدى باكو إبانييث قصائد في فلسفة الحياة، نذكر من بينها قصيدة «مثلك أنت». القصيدة للشاعر الإسباني فيليبي كامينو غاليسيا دي لاروسا المعروف بليون فيليبي. تختزل في بضع كلمات بسيطة وسهلة مفهوم الحياة. كما تدعو المتلقي إلى التفكير في حياته الخاصة، وإلى تقدير الأشياء الصغيرة، وإن بدت هينة وتافهة. كما أنشد ضد الديكتاتورية التي عرفتها إسبانيا في قصيدة «سينادونني» للشاعر بلاس دي أوطيرو: سينادونني، سينادوننا جميعًا/ أنت، وأنت، وأنا/ سنتناوب على آلات سحق من زجاج/ أمام الموت/ وسيُعرِّضونك، سيُعرِّضُوننا جميعًا/ للإبادة، ولطلقة رصاصة.

اغترب المكون الأندلسي زجلًا، وعزفًا، وموضوعًا، ونغمةً، ونمطًا في الموسيقى الأوروبية تمامًا كما تغتربُ المقطوعة الشعرية عن نفسها غربة تامة عندما يغنيها العامة، فيُجهل المؤلف جهلًا تامًّا. نستحضر ختامًا هذه الأبيات المعبرة للشاعر الإشبيلي مانويل ماتشادو:

 

إلى أن يغنيها العامة،

تغتربُ المقطوعة الشعرية عن نفسها

غربة تامة.

وعندما يغنيها العامة،

يُجهل المؤلف

جهلًا تامًّا.

سميرة فخرالدين


المصادر

 

ما قد لا تعرفه عن المكون الأندلسي في الموسيقى الأوروبية



ما قد لا تعرفه عن المكون الأندلسي في الموسيقى الأوروبية 





 تمثل الموسيقى، إلى جانب الشعر، واحدة من أشكال التعبير الأهم في تاريخ فنون الحضارة الإسلامية، فقد وجد الفنان العربي في الموسيقى مراوغة لتفجير عبقرية حسية ولابتكار تراث فني في متحف سمعي أصيل. وتعد الموسيقى الأندلسية، باعتبار مميزاتها الخاصة، جانبًا ثقافيًا هامًا لفهم الحضارة الإسلامية. وقد رفضت شريحة كبيرة من علماء الدين الموسيقى، إلا أن هذا الرفض لم يمنع تطورها في المجتمع الإسلامي.

لعبت الموسيقى دورًا في بلاط الأمويين في دمشق والعباسيين في بغداد، وانتقلت بعض ملامح موسيقى المشرق إلى الأندلس لتُضيف نكهة مميزة لموسيقى شبه الجزيرة الأوروبية. حظيت الموسيقى، حسب ابن رشد، باهتمام كبير خاصة في إشبيلية، وقد كان للتصوف الإسلامي خاصة الذِكر، دور في الربط بين إنشاد القصائد وتحقيق انسجام الذات مع الكون بغية تأمل الواقع الغيبي وتحقيق السمو الروحاني.


الأصول الإيبيرية للموسيقى الأندلسية


في كتابه «الموسيقى الأندلسية المغربية» يرى الباحث والموسيقي المغربي أمين الشعشوع أن الموسيقى الأندلسية التي نراها اليوم بالمغرب، ليست سوى حصيلة عدّة قرون من التّعايش بين الحضارة العربية الإسلامية الشّرقية بمكوّناتها الفارسية والإغريقية، وبين الحضارة الإيبيرية المسيحية بمكوّناتها الرّومانية والبيزنطية. لقد أنتج المجتمع الأندلسي تحت ظلّ الحكم الإسلامي وبمكوّناته المتعدّدة موسيقى تتميّز بغناها وبرقّتها وبعمق معاني ألحانها وأشعارها.

وتحت عنوان «المكونات البنائية للموسيقى الأندلسية» يؤكد الأديب والمؤرخ والباحث المغربي عباس الجراري في مقال أن الحديث عن المكونات البنائية، يقتضي منا أن نعرف أولًا كيف نشأت هذه الموسيقى في الأندلس، حيث انطلقت الموسيقى الأندلسية من أنماط الموسيقى التي كانت موجودة في شبه الجزيرة الأيبيرية، أو كما يقول المؤرخون، «من الموسيقى النصرانية»، أي قبل أن يحل المسلمون ببلاد الأندلس.

ثم بعد ذلك، أتيح لهذه الموسيقى المحلية أن تتأثر بالأشكال الموسيقية والغنائية التي كانت تفد من بلاد المشرق، ومعروف أن المشرق يومئذ، كانت تزدهر فيه حركة الغناء وحركة الموسيقى، سواء في الحجاز أو في بغداد ودمشق. وسيفد عدد من رجال الفن ونسائه على الأندلس من هنا وهناك، وسيحدث نوع من التداخل والتطعيم وتبادل التأثر والتأثير بين هذه الموسيقى المحلية، التي سميت عند المؤرخين «موسيقى نصرانية». وهذه الأشكال والأنماط التي جاءت وافدة من بلاد المشرق. وهذا التأثير المشرقي في الموسيقى المحلية سوف يتبلور شيئًا فشيئًا عبر ظواهر مختلفة.

عزف على آلة النفير، رسم إيبيري من القرن الثالث عشر

تاريخًيا، للموسيقى الأندلسية فروع تَصلُ الموسيقى العربية الشّرقية بالموسيقى الإيبيرية وبموسيقى بعض بلدان المغرب العربي. انطلقت المعارف الموسيقية في العالم الإسلامي من مبادئ علمية خاصة بالعصور الكلاسيكية القديمة. وقد لعبت ترجمة النصوص اليونانية والسريانية والفارسية والسنسكريتية إلى اللغة العربية، في دار المعرفة ببغداد، دورًا في التعريف بأولى النظريات الموسيقية الكلاسيكية في العالم الإسلامي. نذكر من بينها النظريات الموسيقية الخاصة بفيثاغورس وأرسطو وأرسطكاس وبطليموس.

وقد فتحت هذه النظريات الباب أمام ولادة أبحاث إسلامية جديدة جادة في هذا المجال؛ وتقديم بانوراما موسيقية منهجية علمية شاملة لدراسة الظواهر الصوتية والآلية، والجماليات الموسيقية، والأصوات وأثرها على النفس، َوالقوة التعبيرية للموسيقى وغيرها.

أعلام الموسيقى الإسلامية

1. أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي.. القيمة العلاجية للموسيقى

بالنسبة للنظريات الموسيقية، يُعتبر العلامة العربي المسلم أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، عالم اللّغة والموسيقى والتّاريخ وعلوم الدّين والفلك والفلسفة والكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والموسيقى وعلم النفس والمنطق، من أوائل المهتمين بدراسة الموسيقى في العالم الإسلامي.

بوصفه طبيبًا اهتم ابن إسحاق بالقيمة العلاجية للموسيقى. انطلق من المفهوم اليوناني للموسيقى بوصفها «علم لصناعة الأنغام» لتأليف عدة كتب في هذا المجال لم يصلنا منها سوى خمسة، نذكر من بينها: «رسالة في المدخل إلى صناعة الموسيقى»، و«رسالة في الإيقاع». كما كان أول من استخدم لفظ «موسيقي» عنوانًا لأحد مؤلفاته.

2. أبو نصر محمد الفارابي.. صناعة علم الموسيقى

تخصص العلامة أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي، في الموسيقى إلى جانب الفيزياء والميتافيزيقيا وفلسفة السياسة والمنطق والأخلاق والطب، وقد بلغت مؤلفاته من الكثرة ما جعل المستشرق الألماني ستينشنيدر، يخصص لها مجلدًا ضخمًا. ولكن لم يصل إلينا حاليًا من هذه المؤلفات إلا 40 رسالة، نذكر من بينها، «كتاب الموسيقى الكبير» الذي يتناول موضوع الموسيقى. وقد ترجم إلى لغات أوروبية وكتاب «صناعة علم الموسيقى» و يعد من أهم المراجع في هذا الفن.

رسم من كتاب «الموسيقى الكبير» لآلة موسيقية تُدعى «شهرود»

3. ابن سينا.. أمير الأطباء وجوامع علم الموسيقى

أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، أمير الأطباء وأبو الطب الحديث في العصور الوسطى، شاعر، وفيلسوف، وفلكي، وفيزيائي، عالم وطبيب مسلم من بخارى. اشتهر بالطب والفلسفة واشتغل بهما. وقد ألّف 200 كتابًا في مواضيع مختلفة، العديد منها يركّز على الفلسفة والطب. من مؤلفاته في الموسيقى «مقالة جوامع علم الموسيقى» و«مقالة في الموسيقى».

4. زرياب.. أهم من ساهم في تطوير الموسيقى العربية

هو أبو الحسن علي بن نافع، ساهم في تطوير الموسيقى العربية والشرقية. ظلمه التاريخ الإسلامي مقارنة بالتاريخ الغربي الذي أولاه اهتمامًا أكبر ويستفيد من تجربته وآثاره وما قدّمه للعالم أجمع. ترى الكاتبة منى حوا في مقال «زرياب الذي لم يُسقط الأندلس» أن الكثير من الدعاة المتحمسين عالجوا تاريخ الأندلس بصورة شوّهت الوعي بالتاريخ، مطلقين أحكًاما عامة وفق رؤى دينية أو أهواء خاصة متبعين نسقًا غير موضوعي في القراءة التاريخية.

فزرياب -حسب الوعّاظ-، الرجل الذي قاد الأندلس إلى عصور الانحلال والضياع ومن ثم السقوط في الهاوية. وفي ذلك مبالغات كثيرة وتجنٍّ بالغ على شخصية تاريخية لها ما لها وعليها ما عليها، بل وفيه أيضًا تعاطٍ سطحيّ مع التاريخ نفسه.

أدخل زرياب على فن الغناء والموسيقى في الأندلس تحسينات كثيرة، ومن أهم هذه التحسينات أنه جعل أوتار العود خمسة مع العلم أنها كانت أربعة أوتار، كذلك أدخل على الموسيقى مقامات كثيرة لم تكن معروفة قبله. ومعظم إيقاعات وألحان المدرسة الأندلسية المحدثة من قبل زرياب انتقلت إلى أمريكا اللاتينية مع الموريسكيين وتحولت إلى رقصات معروفة مثل: لاكويكا والتانغو الذي ينسب لفن الفلامنكو الموريسكي.

«التروبادور».. من الأندلس إلى أوروبا

يُعتقَدُ أن كلمة «تروبادور» أو «طروبادور» تعود في أصلها لكلمتي «طرب» و«دور» كنايةً على عزف الموسيقى والتنقل بين القصور، إذ تُطلق على «مطربين» كانوا «يدورون» من قصر لآخر. ويُعتبر التروبادور شاعرًا وموسيقيًا من القرون الوسطى. عاش في الجنوب الشرقي لفرنسا وسرقسطة في مملكة أراغون والضواحي.

وهناك من يحيل مصطلح «تروبادور» أو «طروبادور» إلى أصل لاتيني، باعتبار أن كلمة «تروبادور» اقتباس لغوي عن الفعل البروفنسالي «trobar»، المأخوذ بدوره من الكلمة اللاتينية «trope» بمعنى أغنية. والبروفنسالية هي لهجة من الأوكسيتانية تعود لبروفنس (منطقة في جنوب شرق فرنسا).

وفي نشأة التروبادور، تُؤكد إحدى النظريات ولادة هذا الفن على يد دوق آكيتاين ويليام التاسع – 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1071 : 10 فبراير (شباط) 1127 -؛ المُلقب بـ«التروبادور» وهو لقب استخدم حديثًا منذ القرن التاسع عشر، أما اللقب المعاصر له كان «الأصغر» لتمييزه عن والده ويليام الثامن.

ويرى الشاعر والناقد والموسيقي الأمريكي عزرا باوند، أن دوق آكيتاين ويليام التاسع اقتبس غناء «التروبادور» شعرًا ولحنًا وعزفًا وزيًّا وتقليدًا وممارسة عن إسبانيا الإسلامية. وعثر المؤرخ والكاتب، والمستشرق المختص في العلوم الإسلامية، الفرنسي إفاريست لافي بروفنسال، على نسخة لمخطوطة تعود لدوق آكيتاين. وفقًا لمصادر تاريخية، جلب ويليام الثامن، دوق آكيتاين والد التروبادور ويليام التاسع، لبواتييه مئات السجناء المسلمين. النظرية نفسها دعمها المؤرخ واللغوي والباحث الإسباني رامون مننديث بيدال، في أوائل القرن العشرين.

تربادور يعزف على آلته الموسيقية – المصدر: ويكيبديا

ترى نظرية أخرى أن فن التروبادور الأندلسي انتشر خارج الأندلس مع الوفود الأوروبية التي انهالت على الأندلس لتلقن العلوم، والمهارات والفنون الإسلامية. ومن ثم عرفت أوروبا عادة الموسيقيين المتجولين. ومع بداية القرن الحادي عشر ظهرت جماعات التروبادور أو الطروبادور في جنوب فرنسا ثم في ألمانيا للتغني بأنماط شعرية مستحدثة مقتبسة عن الموشحات والأزجال الأندلسية.

أثَّرت موسيقى التروبادور في الثقافة الجاليكية البرتغالية على مستوى الإنشاد الشعبي والإنشاد الروحاني الديني. يتجلى هذا التأثر في مقطوعات مريم العذراء الغنائية. وهي مؤلفات موسيقية من حقبة ألفونسو العاشر، ملك قشتالة وليون المشهور بلقب الحكيم. تتكون هذه المؤلفات من حوالي 420 قطعة موسيقية زجلية منظومة بالجاليكية البرتغالية.

تعتبر اللغة الجاليكية البرتغالية، المعروفة أيضًا بجاليكية القرون الوسطى، لغة رومانسية من القرون الوسطى. تم تداولها بشمال غرب شبه الجزيرة الإيبيرية، في المنطقة الممتدة ما بين بحر كانتابريا ونهر الدويرو. ومن هذه اللغة نشأت كل من اللغتين البرتغالية واللغة الغاليسية (الجاليقية / الجليقية / الجاليكية).

تعود مجموعة أغاني مريم العذراء التي تتغنى بمعجزات مريم العذراء، إلى القرن الثالث عشر (عام 1284). وحُفِظَت النصوص بألحانها في ثلاث مخطوطات تاريخية إلى جانب مجموعة غنية من المنمنمات. تترجم هذه المنمنمات التأثر بالنمط موسيقي الأندلسي-الغربي إذ تصور مؤدين وعازفين بآلات موسيقية أندلسية (مثل: العود، الرباب، الدف).

أنجز المستعرب خوليان ريبيرا اي طراغو دراسات تفصيلية لإبراز الأصل الإسلامي لهذه الإبداعات الفنية. يرى المستعرب الإسباني خليان ربيرة في كتابه «الموسيقى العربية وتأثيرها في الموسيقى الإسبانية» أن أغاني «القديسة مريم» أو أغاني مريم العذراء تعكس بدقة بعض مميزات موسيقى الأندلس.

يعتبر النشيد الغاليكي البرتغالي من الإبداعات الفنية الأدبية المميّزة. اشتهرت في العصور الوسطى ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر. أما من كان ينظم هذه الأشعار ويلحنها ويؤديها فهو التروبادور. تنوعت مواضيع شعر الغاليكي البرتغالي ما بين الحب و السخرية و اللعنة وغيرها.

النوبة الأندلسية في فن الأوبرا

استُعمِلَ لفظ «النوبة» قديمًا للإحالة على «الدور»، إذ التزم الفنانين بتقديم عروضهم الموسيقية أمام الخليفة وفقًا لنظام معين. ثم أحال بعد ذلك على «الجلسة الموسيقية» ذاتها. وفي هذا المعنى يقول الأصبهاني: «حدثنا حسين بن الضحاك قال: كانت لي نوبة في دار الواثق أحضرها جلس أو لم يجلس». وفي السياق نفسه، تؤكد الدكتورة سمحة أمين الخولي أن النوبة الأندلسية تقابل في مفهومها الوصلة المعروفة في الشرق. وتمثل نظامًا خاصًا في تتابع المقطوعات الغنائية والموسيقية الأمر الذي أصبح تقليدًا يتوارثه أبناء المغرب العربي باحترام عظيم.

استُعمِلَ لفظ النوبة أيضًا مرادفًا لـ«الحركة الصوتية» التي تشكل جزءًا من المعزوفة الموسيقية. ليُطلَق المصطلح بعد ذلك على كل إنتاج موسيقي كامل يلتزم بمقومات لحنية وإيقاعية خاصة.

اختلف المتخصصون حول نشأة النوبة؛ يؤكد البعض نشأة النوبة باعتبارها تكوينًا موسيقيًا كلاسيكيًا في القرن الثامن بالمشرق. شكل هذا الإبداع فنًا موسيقيًا متقنًا بالأندلس مع نشأة إمارة قرطبة حيث استهل حقبة من التطور والازدهار الكبيرين بفضل عناصر ثقافية، فنية وموسيقية خاصة بالأراضي الأندلسية.

تمتعت النوبة بقبول كبير في البلاط الأموي لقرطبة في عهد عبد الرحمن الثاني. ولكنها ستعرف تطورًا منقطع النظير في عصر ملوك الطوائف. إذ بلغت آفاقًا رفيعة على المستوى الشعري، الموسيقي والفلسفي. حققت النوبة ازدهارًا في حضن بلاط بنو نصر في غرناطة إلى غاية 1492. واستمرت في شمال أفريقيا.

يرى الباحث ابن بابا علي في حوار مع خالد العيفة في جريدة «الشعب» أن النوبة بوصفه نظام موسيقي يُجهل متى كانت بدايته، أما الشعر المستخدم الذي يتغنى به في هذا المجال، فهناك معلومات تؤكد أنه صدر بالأندلس وليس بالمشرق، إذ إن الأندلسيون هم من أتوا بهذا النوع الجديد من الشعر، لأنه خرج عن نظم القصيدة العمودية وأتى بإكثار في القوافي وفي البحور، كما أتى بقواعد وأغراض خاصة بالمجتمع الأندلسي.

من الناحية الشعرية هناك بيانات مفادها أن كلام هذا الغناء من الأندلس حقيقة، ومن ثم انتقل إلى المغرب أو المغاربة، حيث قاموا بتنظيم موشحات وأزجال بالمغرب العربي ولكنها تشبهها تماما من ناحية البنية، وهي مناسبة ومنسجمة مع أغراض الموشح الأندلسي. وعن نِسبة النوبة لزرياب باعتباره «أب النوبة الأندلسية»، يؤكد الباحث ابن بابا أن ذلك راجع للعادة حيث دائمًا يبحث للتراث عن إبان ولا بد أن يكون مشهورًا، وعندما ننظر في تاريخ الاندلس نجد أن شخصية زرياب كانت جد مشهورة، خلال القرن التاسع، ولهذا كانت تنسب إليه حكايات ولا نعلم نسبة الحقيقة والخرافة بها.

أثرت موسيقى النوبة بشكل واضح في عدة موسيقيين من أوروبا. نذكر على سبيل المثال الموسيقي الفرنسي الذي أمضى سنواته الأخيرة بالجزائر، المايسترو كامي سان صانز الذي استعمل أنماطًا مغاربية أندلسية في بعض أعماله الموسيقية مثل: أوبرا «دليلة وشمشون» (1868) و«جناح جزائري» (1879). أثرت الموسيقى الإسلامية أيضًا في الموسيقي الألماني ريتشارد واغنر (1813-1883)، الشيء الذي ترجم في أوبرا «بارسيفال» (1882).

ما بين الخرجة الأندلسية وقصائد الكانتيغا

يُطلَقُ لفظ الخرجة على التركيبة الغنائية الموجزة التي تغلق الموشحة. نُظِمَت من قبل شعراء ومثقفين أندلسيين عرب ويهود بالعامية وأحيانا باللغة المستعربة، لتشكل نموذجًا توثيقيًا ملموسًا ساعد على معرفة خصائص ومميزات هذه الأخيرة. وتعتبر اللغة المستعربة لغة رومانسية تداولها مسيحيو الأندلس بشكل خاص بعد الفتح الإسلامي لإيبريا.

تعود أقدم خرجة لمنتصف القرن الحادي عشر. اتخذت الخرجة من الشعر الغنائي الروماني التقليدي القديم نموذجًا لنظم تراكيب غنائية موجزة مختلفة الأبنية، وإن كان غالبها يتكون من مقاطع رباعية الأبيات أو ثنائية.

الأغاني الإسبانية

تعتبر الخرجة أهم فقرات الموشح، إذ يتعلق الأمر بعنصر سابق، مبتكر قبل بقية المقاطع الشعرية. وبما أنها تصبح ذائعة شعبية، فهي ليست دومًا من نظم نفس المؤلِف، إذ تتكرر في أعمال مختلفة، سواء كانت عربية أم عبرية. وعادة ما تكون على لسان صبية يتحدث المؤلف بلسانها. كما أن الصلة الموضوعية بين الخرجة والموشحة عادة ما تكون خافتة. كل الإشارات تدل على أن الخرجة نشأت قبل الموشحة، وأن الأمر يتعلق بتكوين غنائي شعبي قديم.

لطالما ارتبطت الخرجة الأندلسية بقصائد الكانتيغا (قصائد مسيحية معروفة في إسبانيا والبرتغال) وبتراتيل عيد الميلاد الشعبية المسيحية (مؤلفات موسيقية شعرية من العصور الوسطى). يرى المؤرخ واللغوي الإسباني رامون مننديث بيدال أنها تنطلق من جذع فني مشترك لتشكل ثلاثة فروع لجذع شعري واحد، ألا وهو الغناء الشعري الهسباني التقليدي. إن أوجه التشابه والتطابق عديدة وحاسمة. على سبيل المثال، الخرجة، تمامًا كقصائد الكانتيغا هي غنائيات حب على لسان امرأة، حول موضوع غياب الصديق أو الحبيب، ومع حضور الأم بشكل متكرر كمؤتمنة حميمية.

فن الفلامنكو الموريسكي

يلفت انتباه كل زائر للأندلس تواجد فرق من الهواة الذين يرقصون الفلامنكو في قلب الأماكن السياحية. فرق بين الهواة الذين يرقصون للمتعة وبين آخرين اتخذوا منه وسيلة لكسب المال. تارة على بُعد بضعة أمتار من قصر إشبيلية وتارة على مَطل القديس سان نيكولاس بغرناطة.

تتلوى أطرافهم المفطومة على رنين القيثارة لتعبّر عن خيبة وجراح. لتدندن كلمات في الحب راب عشقها فانفجر على صفوف المتفرجين. تعارك الراقصات الهواء بأيديهن وتعَنِّفنَ الأرض بقسوة بأرجلهن. قد تعبّر كلماتهن عن الحب أحيانًا ولكن أداء الرقصة الصلب والغناء القوي والخشن يعطي انطباعًا أنك أمام معركة أو ملحمة شامخة.

عادة ما ترتبط فكرة الرقص والغناء بالسعادة والفرح والنشوة، ولكنها قد ترتبط أيضًا بالألم والمعاناة والحسرة والخيبة. فالمذبوح عند الاحتضار يرقص. والماء عند الغليان يتطاير ويرقص. وعصفور القفص يبثُ حنينه للحرية فيُغني ويرقص. فالرقص والغناء هما أحيانًا أبلغ تعبيرًا عن الألم والحسرة والخيبة من البكاء والنحيب والصراخ والعويل والندب والنواح والنشيج.

يعتبر فن الفلامنكو من الفنون النادرة التي تعبر عن الألم والمعاناة، حيث تتكاثف صرخات المؤدِّين المؤلمة لتنسجم مع تصفيقات المتفرجين المتناغمة وشهقات إعجابهم التي تستجدي من الفؤاد «أُولِي أُولِي/ Olé Olé». كلمة يعود أصلها لكلمة «الله»، تغيَّر نُطقها مع الزمن لتصبح «أُولِي أُولِي»، عبارة تستعمل للتعبير عن الإعجاب.

يتبادل المؤدون والمستمعون الشكوى من القلب للقلب. يغنون، ويرقصون، وينتفضون، ويتأوهون ويلتحمون ويتلاحمون لساعات ثم يتركون المكان ويرحلون.

عادة ما يرتبط اسم الفلامنكو بالرقص وهذا غير صحيح، فالفلامنكو مزيج من الرقص والغناء والعزف. وُلد بالأندلس في القرن الثامن عشر من الموسيقى والرقص الأندلسي. صيغت عدة نظريات حول أصوله ولكن تبقى أطروحة أصوله الموريسكية هي الأقوى.

تم تصنيف الفلامنكو كفَنٍ من التراث الثقافي المعنوي للإنسانية. الغناء، العزف والرقص إنها أوجه الفلامنكو الثلاث. تجاوزت شعبية الفلامنكو منطقة الأندلس لتصل إلى بلدان أمريكا اللاتينية مثل غواتيمالا، كوستاريكا، باناما، إيل سلفادور وبويرتوريكو، حيث انتشرت فرق وأكاديميات مخصصة للفلامنكو.

بحسب بلاس إنفانتي أب الهوية الأندلسية، إن اسم فلامنكو مُستمد من عبارة «فلاح من غير أرض» أو «فلاح منكوب». حيث اندمج المجتمع الموريسكي باعتباره أقلية ثقافية ضمن مجتمع آخر سائد. وبالتالي ظهر هذا الفن الموريسكي مرتعًا لثقافة تُعاني التهميش فكان الرقص والغناء أداة للتعبير عن حرقة ومعاناة من حالات القهر التعسفي التي كانوا يعيشونها. كما تُقدَّم فرضيات أخرى ترجع أصل اسم الفلامنكو لعبارة «فلاح منكو» وبالتالي «فلاح منكم».

الفلامنكو ليس فنًا فقط بل هو جزء من تراث وتاريخ وهوية الكيان الأندلسي. إنه ملحمة تروي تاريخ إنسان طبع بقوة بصمات ثقافته على هذه الأرض. فن يروي كيف تخبطت جيوش الحنين في الطين، كيف وصل الموريسكي بخيبته وفجائعه حد الرقص، كيف استجدى صوته من آهات العذاب ثباتًا ليرقص رقصًا لا يجيد الرقة، يرقص رقصًا لا يجيد إلا الخشونة والألم.

آلات موسيقية انتقلت لأوروبا عبر الأندلس

يُعتقد أن الكثير من الآلات الموسيقية المستعملة في الموسيقى الغربية تنحدر من آلات أندلسية. حلت الآلات الموسيقية الإسلامية بشبه الجزيرة الايبيرية، ومن هناك لباقي أوروبا. بعضها كان مُلهِمًا لابتكار آلات أخرى ستكون أساسية في تطور الموسيقى الأوروبية.

 بعض الآلات باللغة الإسبانية مع أصلها الإتيمولوجي:

  1. العود El laúd
  2. الرباب El rabel
  3. القيثارة La guitarra
  4. الطبل El tambor
  5. الدف El adufe
  6. الكاستانت (الصنوج) Las castañuelas
  7. الشبابة La ajabeba
  8. الغيطة La gaita
  9. الطرب La tiorba
  10. النفير El añafil
  11. البوق La alboka
  12. شاع استخدام el almirez (كلمة مقتبسة عن اللغة العربية مهراس) أيضا كآلة موسيقية إيقاعية تقليدية، استُعمِلَت خاصة في الغناء الشعبي الإسباني كموسيقى الخوطا والفاندانغو وغيرها.


سميرة فخرالدين



المصادر