‏إظهار الرسائل ذات التسميات الأندلس والحب. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الأندلس والحب. إظهار كافة الرسائل

قواعد العشق في غرناطة فاقت (الأربعون)


قواعد العشق في غرناطة فاقت (الأربعون)

 



غرناطة ليست شرقية ولا غربية. غرناطة غرناطية.. فقط!


    تحيط بها هالة من “الجيوبسيكيا” أو الجغرافية النفسية التي تجعلها حالة منفردة عالقة بين افريقيا وأوروبا، بين المغرب وشبه الجزيرة الإيبيرية، بين الشرق والغرب، بين تطوان ودمشق، بين تلمسان وتستور… غرناطة حالة وجدانية فريدة مستقلة وستبقى كذلك، على الأقل في مخيلتنا.


    تُعتبَرُ الأماكن أكثر من مجرد مجموعة من المتغيرات الوجودية والمساحات المُجَهَّزَة حسب نظام محدد وهيكل معين. لكل مكان أو بيئة جغرافية كَوْكَبَة من المعاني الوجدانية التي يبنيها الناس حولها، معانٍ تستند إلى تجربتنا مع المكان وترتبط بمدى تأثيره النفسي علينا. ولعل أهم هذه المعاني وأكثرها رسوخاً، تلك المفاهيم المُشترَكة الموضوعة جماعيّاً والمنسوبة اجتماعياً والممتدة تاريخيا، تلك المعاني التي تشكلت بالماضي ولازالت تتشكل بالحاضر لتمنح لكل فضاء نكهة مختلفة، تذكرة مُغايرة وبطاقة تعريفية منفردة . يميل الأفراد إلى إقامة روابط هوياتية مع بيئاتهم الخاصة، لاسيما تلك الأكثر صلة بتاريخهم وحياتهم اليومية. لذلك عندما يتم انتهاك هذه الأماكن، مهاجمتها، تهديدها، أو تدميرها، تدخل المجتمعات في حالة من المعاناة، وهذا يدل على أن الرابط الذي نشير إليه هو، إلى حد كبير، رابط نفسي عاطفي.


    يُساهم هذا الارتباط الوجداني، من جهة أخرى، في تعزيز الرفاه النفسي للأفراد والمجتمعات. إن مجرد مغادرة مدينة إسبانية شمالية لم تُعانقها الأندلس والتوجه نحو المدن ذات النكهة الإسلامية الأندلسية يُشعِرُنا براحة نفسية كبيرة، تماما كمن غادر سُكْر فضول الدنيا المَخْلُوط ومشاغلها المَشُوب لسُكْر ابتهال صادق مُصَفَّى بين يدي خالقه وتمايل مع المائلين: “يا الله ياحبيبي ﻳﺎﻣﻼﺫﻱ ﻳﺎ أﻣﺎﻧﻲ يا مجيبي…”. وأدرك فجأة أن أسمى دمع لايأتي عن حزن وكآبة أو سعادة وسرور وإنما يأتي عندما نَلِجُ سكينة السمو الروحاني. يأتي عندما تتحرر الأجسام من أسى طينها من توابيت تُرابها وتنعتق من مومياها. يأتي عندما تتدفق المشاعر من القلب نحو سيدها وربها ومولاها نحو روابيها وأغوار قُراها.


    من يُحب الجمال يبحثُ عنه حتى في أكثر الأشياء بساطة.. في حبات سمسم تزين سطح رغيف خبز، في رغوة كأس شاي بالنعناع، في زخرفة آنية طين منه خُلقنا وإليه نعود في مصباح من قصب ينثر في الذهن حلاوة السكر أو في طلاء أزرق يقول للبحر كن فيكون. كل الجمال يستوطن دواخلنا، ولكي نتذكره ونستدعيه ونستحضره علينا رؤيته، رؤية أشياء جميلة تُذكرنا به، رؤية أماكن جميلة تُذكرنا به، رؤية الأندلس!


    في الأندلس فقط ، ندرِكُ أن السمراء تُعشَق والصهباء تُعشَق والخمرية تُعشَق والسوداء تُعشَق والقمحية تُعشَق والبيضاء تُعشَق لأن غرناطةُ الصباح تُعشَق، وغرناطةُ المساء تُعشَق، وغرناطة الشتاء تُعشَق، وغرناطة الصيف تُعشَق… في الأندلس فقط ندرِكُ أن الشمس الحارقة مُبهِجَة وخلاَّبة، مُبهِجَة لا بحضورها نهاراً وإنما بغيابها ليلا، إذ تُخلِّفُ وراءها أمسيات ليلية دافئة جليلة. أمسيات تتسرب نشوتها حتى للمتحدث عنها. أمسيات من ألف ليلة وليلة لايفوقها جمالا سوى مشهد عامل غرناطي يأوي أخيراً لفراشه بعد أن رمَّمَ زخرفة دقيقة بالحمراء، وأنفق في ذلك ألف انحناء وانحناء. في الأندلس فقط، نُدرِكُ أننا خُلِقنا من طين غير عازل للحرارة، طين قادر على إنارة قناديل البيازين بوَصلِها بأرواحنا المُشتَعِلة، طين قادر على إحراق المصابيح بسعير زفرة، ِبأُوارِ شرارة جائية ذاهبة من حمراء بني الأحمر. ولاتُدافع غرناطة عن نفسها، فأمام لظى العِشق ما من أحد يُدافع عن نفسه. في الأندلس فقط نُدرِكُ أن الزُليج لايتم تركيبُه باليدين وإنما بالقلب. وفي غرناطة فقط نُدرِكُ أخيراً أن الرمان عندما تكتملُ حلاوتُه يُفَجِّرُ اللحاء، تنفجِرُ الرُّمانة فتُولَدُ غرناطة. عندما تحتار، أي لون ترتدي، سيفوز الأزرق وعندما تحتار أي مدينة أندلسية تزور، ستفوز غرناطة، ففي غرناطة فقط، قواعد العشق فاقت (الأربعون).


    من يُحب الحب ينطق بلغته. وأسمى لغات الحب العناق. كل الحركات والأعمال والانشغالات والكلمات تُفضي إلى الملل… إلا العناق. بعض لغات الساكنة الأصلية لأمريكا اللاتينية تسَمِّي السماء “البحر الأعلى”. لابد أن رب العالمين الذي لوَّن السماء بالأزرق لنكون بخير تحتها، لوَّن العناق بالإطراق والانحناء لنرتشف منه أكبر قدر من السكينة والوداد ونكون تحته بخير أيضا. في العناق إطراق مهيب وطأطأة جليلة تُذيعُ نعيم القرب ورغد الوصال ودفء الكلف ورفاهة الود من القلب إلى سائر الأعضاء. “إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ” الود من المودة، وإذا كانت المحبة ما استقر في القلب والوجدان والعاطفة، والعقل. فالمودة ما ظهر منها على الجوارح، أي أنها أقرب إلى أن تكون عملية من التفاعل الأليف واللين بين المُحبين. العناق… واحد من أسمى التعابير الإنسانية. هو الهدأة والهدوء و الهوادة. إطراقه وقار جموده هدير ثباته ضجة صمته إفصاح سكوته منطق خُشوعه صلاة ثبوته سلام… “سلام هو حتى مطلع الفجر”. هناك متعة أجمل من معانقة الحبيب ألا وهي معانقته مرة أخرى، و هناك متعة أجمل من زيارة غرناطة ألا وهي زيارتها مرة أخرى. عندما تحبين رجلا ما سيصبح جزء من بشرتك وعيناك وشعرك وغنائك وطعامك وأولادك ووالدايك، وعندما تزورين غرناطة ستصبح جزء من هويتك وأناك. وحده الحبيب قادر أن يرُدّك طفلة مدللة بظفيرة من صنع يديه، ليَستَرِدّك بالعشق امرأة مدججة بالأنوثة بتحريره الظفيرة نفسها من كل رباط، ووحدها غرناطة قادرة على جعلك صبية تائهة بين الأزقة لتستردك أميرة ناضجة بين القصور. وكلما قلتِ أن الحبيب أجمل مافي الوجود يصرخ قلبك مصححا بل هو كل الوجود، وكلما قلتِ أن غرناطة من أجمل مدن اسبانيا يصرخ ضميرك مصححا بل هي مستقلة عن اسبانيا!

 

أجمل غروب للشمس بالعالم

 

مطل سان نيكولاس بغرناطة



    إلا أول لقاء بمطل سان نيكولاس فإنه لا يبدأ أبداً بإلقاء التحية، لعلها دهشة النظرة الأولى. إلا بمطل سان نيكولاس لن تتساءل أبداً عن أي النظريات هي الأصدق لدراسة المكان أهي المادية أم المثالية. إلا بمطل سان نيكولاس لن تهتم أبداً بتأمل إذا ما كانت المادة (الوجود/ الطبيعة) تتقدم الفكر (الوعي) أم العكس. ستضرب كل النظريات المتعلقة بالتأمل العقلي للظاهرة المكانية عرض الحائط. فالفضاء غني عن كل تلك التعقيدات. لا مكان هناك إلا للنشوة وممارسة الجمال وتبني البساطة المريحة وارتشاف خمر الهذيان ومعانقة سَكرة اللاعقل. يقع مطل سان نيكولاس بقمة البيازين بغرناطة. مشهده البانورامي المنفتح على الحمراء، وارتفاعه الشاهق مقارنة بمستوى المدينة المنحدر، يجعلان منه واحدا من الأماكن الأكثر إقبالا بغرناطة. يتمتع المكان خلال النهار بجو بوهيمي. فهو فضاء لختم مواعيد عُقدت من قبل، ومتجر هواء طلق صالح لعرض تجارات صغيرة متنقلة أغلبها لأعمال فنية يدوية.

    يستطيع زائر حي البيازين الإستمتاع بتأملات بانورامية للمدينة من بعض مقاهي ومطاعم الحي. ولكن يظل مشهد مطل سان نيكولاس البانورامي أهمها، أبهاها وأشملها على الإطلاق. يتسم المكان بجاذبية أكبر خلال المساء. حيث تُضفي فرق فلامنكو موسيقية رونقا خاصا على المطل في آخر ساعات النهار. بعضها لهواة يبحثون عن المتعة وأخرى لمجموعات اتخدت من عزفها الفني موردا للعيش. رنين قيثارة، غناء، رقص، وأناس يصحبون معهم كتبهم أو مشروباتهم لعين المكان، كلها عوامل تجعل من المطل فضاءً ساحرا، فريدا ومختلفا. كلها بواعث لمقولة فولتير حين أَنْبَأَ: “دعونا نقرأ، دعونا نرقص فهاتان المتعتان لن تؤذيان العالم أبدا”. مثير للاهتمام و التأمل أن المرء حين يرقص لايُؤذي، لايَضُر، لايُوجِع. الذي يرقص لايكره حينها أبدا، الذي يرقص يشعر فقط، يتأثر، يركض خلف انفعالاته، يُطلِقُ العنان لعواطفه، يُحِب. ينشغل بالتخطيط لرَقصَة من صنعه، رقصة مِلْكٌ له وحده، رقصة من تخبُّط دمائه، واهتزاز مشاعره. ينشغل بتذويب انفعالاته في تعبيراته وملامحه وحركاته. ينشغل بحالة الارتواء الروحي التي تتملكه. ينشغل برسم لوحة لا يُبدِعُها الرسامون وكلمة لايُؤلِّفُها الشعراء. ينشغل بتحرير النفس من طينها وارتشاف هزة من تحت تُراب الكلام. ينشغل باحراق جليد الروح بنار اللحظة، باصطدام الباطن بالظاهر، السريرة بالجهيرة، الدخيلة بالملمح. ينشغل بترويض طويَّة تنمو وتسمو وتحلق بروحه. ينشغل باتباع وقيد شرارتها ومنزل صبواتها ومُستقر تقلباتها وسيل مرتعها في الذات ومثوى ركودها الأخير بجسمه. ينشغل بابتكار طريق مختصر للسعادة، ينشغل بخلق جمال، مهما اختلف من ثقافة لأخرى، تتفق الشعوب على استشعاره وفهمِه في الوقت الذي لم تتفق فيه على وحدة معاني كُتُبِها المقدسة. الذي لا يستطعم الجمال من السهل جدا أن يضُر، أن يوجع وأن يُفسد. ليست النصوص الدينية الوحيدة التي تمنعنا من ارتكاب المعاصي وإنما أيضا الوازع الروحي و امتلاك الحس الجمالي أو حيازة الوعي بالجمال. الذي لا يستطيب الجمال من السهل جدا أن يؤذي، أن يُشجي، أن يُحزِن وأن يرتكب المعصية. المعصية دميمة بشعة رديئة قبيحة دمثة ثقيلة على قلب جميل يرق للجمال ويستلذ بهجة به. المعصية دميمة في قلب يهتز لوضاءة منظر طبيعي، يأنس لرونق مجاز لغوي، يهتز للوحة فنية معبرة. المعصية دميمة في عين تدمع لذِكرٍ عذب رائق، لتلاوة طيبة، لاعتصار موسيقي دَقِيق… لعذوبة نغمة ساحرة رقيقة. من يلين للجمال تمتلىء روحه رِقة وحُنُوا على البشر.


    من شهادة بيل كلينتون في المطل أن قال: هنا يمكن للمرء تأمل “أجمل غروب للشمس بالعالم”. حيث تتحرش حُمرة الغروب بحُمرة الحمراء. ثم يبدأ وجه أندلس المساء بالتشكل. منظر يغسل بالسحر أتعاب الدهر. طبيعة تشرب طرب الغروب ورنين العزف. ونغمات تشق بعذوبتها كل فِكر. برهة من نشوة تعادل طول الدهر. يستل الجمال خنجرا. ينتحر. فلا جمال فوق جمال الحمراء المدوي. تمر بقايا أشعة الشمس على الخدين، تحرق بعذوبة الشامات والشم. تستفزك. تؤلمك. فتبتسم لها بمذلة بعد أن تتفقد القلب!

    تضم ساحة مطل سان نيكولاس مسجد غرناطة الكبير الذي تم تشييده سنة 2003 (ويعتبر أول مسجد تم بناؤه منذ سقوط غرناطة سنة 1492) وكنيسة سان نيكولاس التي تعود لسنة 1525. كان المكان سابقاً عبارة عن ساحة واسعة ضمت مسجدا مُتَقَدِّما اختفى حاليا ولم يبق منه سوى صهريج ماء صغير استُخدِمَ على الأرجح للوضوء. كل الموجودات تتناسق مع بعضها وتتفاعل وإن كانت مستقلة بذاتها مما يكسب المكان سمة خاصة. ينتظم الفضاء في تجمعات مكانية متباينة ترتبط فيما بينها بعلاقات العِلّية. لكل صرح وظرف عِلَّة تجعل منه سبباً في إحداث آخر. الحمراء عِلة وجود المطل. والمطل علة وجود تلك المباني من كنيسة ومسجد وعلة جمال المكان. وجمال المكان علة لشهرته. وشهرته علة لتدفق السياح إليه من كل صوب ولحركيته. ولاعِلَّة لإغلاق مسجد غرناطة ليلاً. ولا علة لإغلاق كنيسة سان نيكولاس ليلا. ولا عِلَّةَ لإغلاق بيوت الله ليلا. ليبقى السؤال الذي يفرض نفسه في كل البلدان: لماذا تُغلق دور العبادة أبوابها ليلاً وهو الوقت الذي يحتاجها فيه المتعبد أكثر؟ لماذا تُغلق المساجد والكنائس ليلا وأرواح العباد في سكينة الليل تكون إلى بارئها أقرب؟ لماذا والأنفس حينها فقط تتحجب عن فضول النهار.. فضول الدنيا؟ لماذا تُغلق أبوابها والروح تستعذب مناجاته في هدأة الظلام أكثر، وتقتبس نور القربات بشكل أصدق؟ لماذا وبالليل فقط يأكل الباطن الظاهر، ويلتهم المحسوس الملموس فيحلو الوصال؟ لماذا وبالليل فقط تتجلى متناقضات الضعف الإنساني بشكل أصدق؟ يُناجي العبد ربه، يدعو، يخاف، يطمئن، ينخفض، يرتفع، يشك، يوقن، ينحدر، يسمو، يبتعد، يقترب، يتقاعس، يتقرَّب، يحزن، يفرح، يغفل، يستغفر، يتوب، يشكو، يحمد، … يطوف تحت سماء ربه متخبطا من حال إلى حال إلى أن يُنهي الرحلة ويُوقف المسير ويختم السفر ثم يخلد أخيرا إلى النوم أو إلى الموت.

    ولأننا عاجزون عن لمس أرواحنا، عاجزون عن رؤية أرواحنا بشكل مادي ملموس، عاجزون عن الإمساك بأرواحنا بين أيدينا وتشكيلها كمادة، فإننا نستمد لهذه الأرواح التي تسكننا شكلاً مناسبا وهيئة ملائمة من كل الموجودات المادية التي نُحيطُ بها أنفسنا: الألوان، الأشكال، الأثاث، الأواني، الأزياء، اللوحات، الصور، التصاميم، الموسيقى…. نحرر أرواحنا من صدورنا لنبعثها في كل شئ مادي ملموس. وهكذا تولد الأذواق المتباينة لتُناسِبَ أرواحاً متباينة… أرواحاً سابحة في الموجودات المختلفة. ولأننا عاجزون عن لمس الأندلس والعيش بالأندلس، فإننا نجتهد كزوار للمطل في تأمل قرون من التاريخ الإسلامي من علو مكان مميز. نحاول تصور كيف مرت حياة بني نصر بين تلك الحيطان. نستمتع بتجسيد البعد الواقعي للمكان بالتركيز على نماذج لشخصيات تاريخية مرجعية مما يمنحنا صورة إجمالية عن الموروث الثقافي المحلي بشكل عام. ندرك أننا أمام حالة تاريخية معقدة بدأت مع محمد الأول ومرت بالملوك الكاتوليك والإمبراطور كارلوس الخامس ولا زالت مستمرة بشكل أو بآخر إلى اليوم. نستحضر تصوراً للشخصيات وللأحداث بشكل يساعد على تجاوز التصوير التقريري والمضي إلى عوالم من الوعي الذهني والإدراكي الذي لا يخلو بدوره من الجمال. وبدل تغريب المكان في حيطان صماء، نقوم بأنسنة الواقع وأسطرته في قالب تاريخي. نُصنِّف الظاهرة المكانية بعيداً عن تأملات الجيوفيزكس البكماء فلا متعة تفوق لذة استحضار عاملي الإنسان والتاريخ والزمن.

 

رواق قصر الحمراء المَكسور

 

يُطلَق اسم “اللامكان” على المساحات التي لاتربِطُنا بها علاقات وجدانية، والفضاءات التي لاتُشكِّلُ عُبوراً لهويتنا ولاجسراً لماضينا ولاتَقطع لتاريخنا تذكِرَة. لذلك عادة ماتُطلَق عبارة “اللامكان” على الفضاءات المحايدة كالمطارات والطرقات ووسائل النقل ومراكز التسوق ومقرات شبكات الاتصالات… في المطار مثلا، نتجرَّدُ من كل صلة جماعية قد يبني من خلالها المرء هويَّتَه. نتحول إلى سلسلة متتابعة من الأفراد، حتى أننا نضطر في كل حين للكشف عن جواز سفرنا كنوع من التصريح بالهوية، سواء إذا كنا في حالة مغادرة أو وصول. وبين هاتين النقطتين، نتحوَّلُ إلى مجرد مسافرين مجهولين يُشاَرُ إليهم برقم مقعد ورقم رحلة. كذلك تنقسم المعالم السياحية الإسبانية في أذهاننا أحياناً إلى أماكن و”لا أماكن” وفقا لمدى ارتباطها أو انفصالها عن تاريخنا الإسلامي الأندلسي. ولعل هذا الشعور بـ “اللامكان” هو نفس الإحساس الذي يتملَّكُ كل عربي أو أمازيغي مسلم يزور قصر كارلوس الخامس المتواجد بمُجمَّع قصر الحمراء أوّل مرة.


    عندما يزور السائح غرناطة سيفكر في الحمراء، في جنة العريف، في مسلمي الأندلس، في طابع المدينة التاريخي الإسلامي، في المساجد، في البيازين وأزقته المزهرة الضيقة. ولكن، وما إن تزور مجمع الحمراء السياحي حتى تتفاجأ ببناية تاريخية ضخمة على الطراز الروماني. بناية تتناقض معماريا ًمع الحمراء ومع هيئة المدينة بشكل عام ألا وهي قصر كارلوس الخامس. يصعب على الزائر المرور من حِس الحمراء الإسلامي النَاعِم الرَشِيق الرقيق الرطيب المرهف ليجد نفسه مباشرة في قصر كارلوس الخامس الرمادي ذي الأعمدة الضخمة الجبارة المُستحكِمَة الصَليبة البَرُودَة المفتولة الناشفة. صعب. وإن كان باذخاً في طرازه المعماري الخاص به، عظيماً في بنائه، وثيقاً في هيكله، وَكيداً في استدارته، فخماً في منهجه، يبقى ذلك صعباً.

 

 

قصر كارلوس الخامس المتواجد بمُجمَّع قصر الحمراء



       يحكي القصر واقعة معمارية تاريخية لم تأخذ حقها من التعريف والشهرة، ألا وهي تحطيم كارلوس الخامس جزءاً من الحمراء لتشييد قصره الخاص بجوارها، قصر كارلوس الخامس. تعود أحداث قصة الهدم إلى فترة زواج الإمبراطور كارلوس بملكة البرتغال إيزابيل أفيس حيث قررا الإقامة بالحمراء في فترة ما بعد حفل الزفاف. أدى اعجابهما بالحمراء إلى إصدار قرار بتحطيم الرواق الواقع بالممر الجنوبي لفناء الريحان وتشييد قصر كارلوس الخامس في مكانه. أمر الإمبراطور ببناء القصر إلى جوار الحمراء حتى يستمتع بعجائبها. وكُلف المهندس “بيدرو ماتشوكا” بالمهمة. بدأت عملية تحطيم رواق الحمراء وبناء قصر كارلوس سنة 1527. شيد القصر بالمكان المقابل لبرج قُمارش في قلب الحمراء (بالشق الخلفي لفناء الريحان). لم يثر هذا الهدم المثير للجدل في تلك الحقبة أي تنديد أو استنكار. لم يثر حفيظة أي سلطة وذلك لأن تهديم الصروح والقصور من طرف المستعمر المنتصر كان أمراً اعتيادياً. بل ويمضي البعض بالاستدلال بحادثة هدم رواق الحمراء للبرهنة على الحس الفني الراقي للامبراطور كارلوس الخامس. إذ أنه لم يحطمها بالكامل بل حطم فقط جزءاً منها. وهو الجزء الممتد بالشق الخلفي لفناء الريحان ليشيد في مكانه قصراً يسمح له بتأمل جمالها. يذهب بعض الباحثين إلى الإقرار بأن ما حطمه كارلوس الخامس لم يكن فقط رواقاً تابعاً للحمراء وإنما القصر الشتوي للحمراء. ولكن تبقى رواية الرواق هي الأكثر مصداقية في غياب أي دليل يبرهن على وجود ذلك القصر الشتوي. خصص الطابق السفلي من قصر كارلوس الخامس لمتحف الحمراء. ويضم المتحف كنوزاً إسلامية أندلسية نادرة. أما الطابق العلوي للقصر فقد أصبح منذ سنة 1958 مقراً لمتحف غرناطة للفنون الجميلة. متحف متخصص في عرض لوحات رسم مابين القرنين الخامس عشر والعشرين. أغلب اللوحات تستعرض مواضيع دينية وأخرى تاريخية. ولعل أهم لوحة قد تستوقفك لوحة “خروج أسرة أبو عبديل من الحمراء” للرسام مانويل غوميز مورينو”.


    سلَّموني خريطة عند باب مُجمَّع الحمراء. احتمت جثّة رطبة بحقيبتي، وبين أناملي. شاركتني البحث عن الجمال في كبد معلمة بني نصر، البحث عن مناجم الأحلام في الحمراء والأبراج والممرات وعن المعالم ذات العينين السوداوين، الحمامتين. وعن المعالم ذات العينين العسليتين، الشوكتين. لعَقت عند القصر الرمادي من دم وجهي حسائها ولم أنهها ولم أرُدها. ضيعتُها في آخر الزيارة. ضيعتُ بصمات الذكرى فيها وفيّ. ضيَّعتُ شوقي المشبوه إلى رواق الحمراء المكسور، وشوقي غير المشبوه لمرافق الحمراء الممنوعة عن العامة. تختزن إحدى قاعات الحمراء المسمّاة “قاعة الأسرار” ظاهرة سمعية عجيبة ونادرة. القاعة ممنوعة حاليًا عن العامة. هي قاعة تحت أرضية. تقع في القبو الواقع مباشرة تحت قاعة الأختين بالحمراء. وتنفرد بظاهرة صوتية غريبة. عندما يقف الشخص باتجاه جدران الغرفة، ويهمس أو يتحدث بصوت منخفض موجهًا صوته إلى السقف أو لجدران الغرفة، يستطيع شخص آخر على الجانب الآخر من القاعة سماع صوته بوضوح وإن كانت المسافة بعيدة بينهما. بذلك يمكن أن تجري محادثة بين شخصين اتخد كل منهما الشطر المعاكس من نفس القاعة مكانًا له. في حين أن الأشخاص الأقرب إلى الشخص الأول، و المتمركزين وسط الغرفة، لن يتمكنوا من سماع أي شيء. وتفسر الظاهرة بالتشييد الهندسي المميز للقاعة.

 

في غرناطة فحمٌ لا يُداس



    لاتدوس أقدامنا تراب الأندلس، وإنما تحتضنه. لاتدوس أقدامنا تراباً غرناطيا سارَ فوقه ابن زمرك، ابن فركون، ابن الجياب، عائشة الحرة، نزهون الغرناطية، حفصة الركونية، نُضار بنت أبي حيَّان…. وإنما تُعانقه وتَضُمُّه. حتى فحم غرناطة لا يُداس. يدعى خان الفحم أو ساحة الفحم. يقع بشارع ماريا بينيدا بغرناطة. وهو مبنى أندلسي ذو تصميم مربّع يتوسطه فناء، وتمر بجوانبه أروقة بها مبان مستطيلة مقسّمة إلى مساكن عديدة يتوسّطها حوض مربّع الزوايا. استراحت الأروقة على دعامات حجرية و ركائز خشبية اشتكت جمال نقوش حُفِرَت على جسمها لتسرق منها بهاءً بالجود سال، راقبَتهُ العين دون أن تشكو ملالا. تزيَّنَ قوس المدخل بـ ” قل هو الله أحد، الله الصمد لم يلد ولم يولد”. وفي غياب أي دليل أو لافتة ترشدني أو تمنحني أي معلومات، لجأتُ لحارس المبنى الذي كسَت الشمس وجهه احمرارا، فوَهبتُه بأسئلتي ظلالا. أخبرني أن تم بناء هذا الصرح الأندلسي في القرن الرابع عشر في عهد النصريين وسُمي حينها بالفندق الجديد حيث خصص للخدمات الفندقية. ليشكل بذلك الفندق العربي الوحيد الذي تم الحفاظ عليه بشبه الجزيرة الإيبيرية. وفي القرن السادس عشر باع القشتاليون البناية بالمزاد العلني ليصبح مستودعاً للفحم ثم شققاً سكنية ومحلات تجارية فيما بعد. في عام 1918، أُعلن المكان صرحاً تاريخيّاً وفنيّاً وطنيّاً ورمّمه المهندس رافاييل سولير ماركيز سنة 2005.


    يطلق اسم “كارمن carmen” على البيوتات الغرناطية التقليدية ذات الحدائق. ويشتق اللفظ من الكلمة العربية “كرم” (شجرة العنب) حيث استعمل مسلمو الأندلس اللفظ أيضاً للإحالة على الأماكن ذات البساتين، الحقول أو الحدائق. اعتاد الأندلسيون طلاء جدران الحمامات العمومية بالأحمر لتمنح إحساساً إضافياً بسخونة الجو وحماوة المكان وحرّ الفضاء. بعيداً عن رمزية الأحمر المرتبطة ببهجة الشمس ودفء الطقس وحرارة الأُلفة ولَسْعَة الفلفل وجاذبية حُمرة الخجل… تبقى أجمل رمزية للون تلك التي تُعَبِّرُ عن وحدة الإنسان.. أبيض، أسود، أسمر… على اختلاف لون البشرة يبقى لون الدم الذي يجري بالعروق واحداً.


    نبحث عن القمر طوال اليوم، وعندما نعثر عليه نترُكُهُ وننام. نبحث عن غرناطة طوال السنة وعندما نعثر عليها نترُكُها ونرحل. نستردُ الحقيبة المتوسطة من الخزانة. نصفف من جديد الثياب. نرتقي أعالي السبيل لنعود في كل مرة إلى منزلق الطرقات والتذاكر والمطارات. نرسم خطوات مقيدة على طريق مطلق. يطوف الصمت بين المباني القصيرة. تُحرك قهقهات الساكنة ستارة النافذة. نرحل بعيداً بالسمع نحو هَزِيْز الريح المتزايد، وخرير المياه الباردة المتدفقة في القنوات الطويلة. ينحني عامل لقطع شجرة، لابأس، لن أبقى وقتاً طويلا هنا ولن أرى، عندما يقطعونها سأكون بعيدة ولن أشعر بأي شيء.

 

سميرة فخرالدين

ما بين الأندلس والحب

 

ما بين الأندلس والحب



عندما تُحب امرأة ما، ستختصر كل نساء الكون فيها فقط، في امرأة واحدة فقط. وعندما تحب بلدا ما ستختصر جمال الكون فيه وحده فقط . فكل النساء سَوَاءٌ إلا من تُحِب، وكل البلدان سَوَاء إلا الأندلس. عندما تغار على حبيبتك قد تجتاحك رغبة جنونية في تجريدها من زينتها ومن كل جواهرها حتى تقطن في أحداقك فقط لا في أحداق غيرك . وعندما تغار على أندلسك قد تجتاحك رغبة في تكفين جدرانها بالسواد حتى تغتسل حيطانها في عينيك الصاحيتين فقط لا في عيني غيرك. 


قد تجتاحك رغبة جامحة في رمي كل من يشاركك الإعجاب بمفاتنها بالتراب والحجر. قد تغار عليها من السكان الذين يشاركونك التجول بشوارعها، ومن السياح كلما ألقوا بنظراتهم الشغوفة العميقة على تقاسيمها. قد تغار عليها من الزوار والمتجولين، من فرق الفلامنكو التي تطربها في كل حين، من حارسِ قصْرٍ يُذكِرُك بحلول ساعة الرحيل، ومن لباقة مرشد يقضي دقائق جحيمية سوداء طويلة للتغزل بسحر جسمها المُكتنز الجميل.

قد تغار عليها من حارس متحف يحضن كل قطعة بعينيه بخوف وحنين. ومن مرشد لا يستحي من إنهاء جولته معكَ أمام معبر الرحيل، كأنَّهُ يُذكِّرُك أنك لست سوى زائر آتٍ من بعيد، زائر غريبٍ يتجول،يتأمل، يبني حلما ثم يتخلى عنه عازفا لحن رحيله الحزين. عندما تُحب امرأة، ستكتشف لأول مرة أن الشفاه وحدها تحمل اللون الأحمر وأن الكرز رمادي اللون وأن لا رحيق بالعسل وأن الصيف لا يأتي مرة في السنة، بل كل يوم.

وعندما تزور الأندلس، ستكتشف بأن العالم رمادي وأن لا وجود للأحمر خارج الحمراء وأنك في قصر إشبيلية فقط تستطيع أن تصبح أميرا دون حفل ولاء. عندما تحب امرأة ما، قد تبحث عن التميز في عينيها، عن إثارتها، أو ربما حتى عن إزعاجها بثقل وغباء لتستشعر وجودك وتلتفت إليك. قد تمازحها بمخارج فكاهية تافهة. قد تغضبها لتتلذذ بالتحايل عليها ومداعبتها ومصالحتها… فبعض النساء يصبحن أكثر سحرا عندما يبكين…

بحثت عن إثارة الأندلس، عن إغضابها فتلذذتُ بنذب بشرتها الرقيقة الناعمة بأظافري .خنقتُ أعشابها بيدي . غرستُ بصماتي بقوة على جدرانها . بعثرتُ ترابها بقدمي . اعترضتُ نسيمها ورياحها .عاركتُ مياهها . زَرعتُ خطوات متثاقلة مدوية صاخبة مزعجة قوية على أرضها . بحثتُ عن تكسير هدوئها، عن إشعال حواسها .. وكلي ثقة أنها ستحضن حماقاتي بحب. وهل للطفل الصغير أن ينزعج لقُبلة أُمٍ تعتصر وجنته بعنف؟ كذلك حبي للأندلس، اندفاع وجنون يلتهب ويتطاير في شرياني.

أذعتُ لها كل أسراري وخطواتي ولم أستحي من مقاسمتها كل حماقاتي، أخبرتها أن إحساس غربتي قلّ عندما عانقتها، وأن هلال روحي اكتمل في حضنها. أخبرتها عن ملامحي البسيطة التي لم تتوحد إلا فيها، حتى أحمر الشفاه الذي أخجل من وضعه بالشارع، مهما كان خافتا لونه، تجرأت على غير عادتي ووضعته…

أخبرتها عن دمع الحزن الذي فاض من القلب بمسجد قرطبة. عن جوارحي التي نزفت. ويا ليت دماء الجوارح تُجدي فتُغنيني عن ألمي وعن وجدي. ليتها تدفع الأجراس إلى الإعتذار للمآذن. أخبرتها عن جدران قصر إشبيلية التي ترش سعادة مزيفة للغرباء.


أخبرتها عن سكينة الوادي الكبير الذي أطربني بأشعار ابن زيدون والمعتمد بن عباد ولوركا. أخبرتها عن الحمراء،عن ثغري الذي ارتاع من جمالها فتاه عنه كل شيء.. تاه عنه البكاء وتاه عنه الإبتسام. أخبرتها عن المواعيد التي عقدتها مع التاريخ، تاريخ غادر آتيه قبل الموعد ليأتيني متنكرا في زي آخر، في أحداث أخرى ودون أن أنتبه يتركني ويمشي.

كانت إشبيلية أول وجهة لي بالأندلس. كانت هاجسي اللذيذ الذي شاركني تدوين أحلام لا تُدوَّن على الورق، أحلام تقتني للماضي تذكِرة، أحلام تستحضر التاريخ من كل قلب: إشبيلية وقلب.. الخيرالدا وقلب.. برج الذهب وقلب.. قصر إشبيلية وقلب.. الوادي الكبير وقلب…

عقدتُ أول مواجهة لي مع التاريخ في حرب أعلنتها ضد الوادي الكبير. وادٍ كسول يتمايل بخمول وتعب. فلطالما شهدت مياهه حروبا دامية وحصارات وحركات تجارية وصخَب. تسكَّعت العين في مياهه لساعات دون أن تعرف السبب.

توقَّظت جذْوَة التاريخ الكامنة في عمق المياه. وأمام مشهد الوادي البانورامي الأزرق المُستكين وبين مارة تتراقص خطواتهم على الرصيف، لفّت الأعشاب الضئيلة التي نمت على الجانبين بجمالها السرّي المحتشم كل صور الذاكرة لتشتري على المياه شكلا مَسرحيا للأحداث الغابرة فانهارت الحدود بين الجغرافيا والتاريخ:

هنا نشطت حركة السفن التجارية الصغيرة.

هنا نشأ ميناء نهري بالغ الأهمية.
هنا التقى المعتمد بحبيبته اعتماد.
هنا حاصر فرناندو الثالث إشبيلية.
هنا وعبر نهر الوادي بدأ في محاصرتها وتطويقها من كل جانب.
هُنا حُرِمَت إشبيلية من وصول المجاهدين لنجدتها وعونها.
هُنا احتدت المعارك بين السفن القشتالية والإسلامية.
هنا في مياه المصب مُنع ورود الإمداد والمؤن إلى أهل إشبيلية لشهور طويلة إلى أن سقطت.


ثم تتوقف عن التفكير. ففي الصراع، غالبا ما يكون النصر حليف الوادي. فسُكون المياه وجمال المكان وعذوبته تصدُّ الخيال عن التفكير في مكر التاريخ وصراعاته. فتترك الألم يموت لوحده على مراحل. تترُك الحزن ليحزن لوحده. تبيعه لكل المشترين دون مقابل. لتَقِف باستعجال على الجوانب المُعاصرة للمكان التي أعطته قيمة مُختلفة. فالقِيمُ مثل الرماد تُمحى. في المياه تمحى. وتتغير نكهتها وطعمها بمرور الزمن.

تمتد مراكب سياحية صغيرة على الوادي. وعلى الجانبين تستريح منازل معاصرة بهية الألوان. منازل تُغلق أبوابها بإحكام، فأمام وجوهِ العشاق الشريدةِ المستأنسة لا يفتحُ الناس أبوابهم، وتغض النوافذُ طرفها عن حقائبهم المنسية. في حضورهم يخلع الوادي قيوده، يغني ما يشاء، يحتضر كما يشاء…

ثم تغادر الوادي الكبير لتغوص في أعماق إشبيلية. تتغير الأحاسيس في ثوان معدودات، تتريَّث لتُعيد تنظيم جريانها وصياغة حيثياتها، لتستأنف من جديد رحلة التسكع المُنظَّم في عالم أندلسي مشغول عنك!


 سميرة فخرالدين

الصَبٌّ تفضحُهُ عيونه

 

الصَبٌّ تفضحُهُ عيونه






الحب خضوع لكيمياء معقدة متبادلة بين اثنين، أنت ومن تحب. والكتابة خضوع لكيمياء معقدة متبادلة بين اثنين، بين ملكوت الله الهائل وذلك المخبأ العميق القاطن بالداخل. في الحب لا يصلح أن تحمل فتاتا من روحك لمن تحب وإنما كل الروح، وفي الكتابة لا يصلح حمل حالتك النفسية لحشوها بين مفردات صفراء عقيمة وإنما كل الحال. إذا كنت تستطيع أن تسعد دون أن تكتب وأن تحب دون أن تكتب وأن تحزن دون أن تكتب وأن تغضب دون أن تكتب فلا تكتب لأنك لن تبدع!

ستَمُر في حياتك الكثير من النساء، ولكن هناك واحدة فقط ما إن تراها حتى تدرك فورا أنها هي هي من تبحث عنها! ما إن تراها حتى تُقبِل على الماء لتبترد ولا حَر! ما إن تراها حتى تدرك أن النساء خُلقنَ ليعشقهن الرجال، أما هي فخُلِقَت لِتُجَسِدَ في عينيك العشق ذاته! ما إن تراها حتى تقتنع من نظرة واحدة فقط أنك لن تستطيع الخروج منها حيا! كذلك الأفكار، نمر بالفكرة والفكرة. نتخيل الجزئية والجزئية. نمر بهذا وذاك ولكن لا نتوقف إلا أمام تلك "الفكرة-الصاعقة" التي نشعر أنها هي هي ما نبحث عنه. هي هي التي ستأخذنا لكتابة اللا اعتيادي. نعانق الفكرة لنصبح ذاتين في فرد واحد في كون ليس بواحد. تعانق تلك "الفكرة-الصلاة" التي تجبرك على النهوض من سريرك للاستمتاع ب"تواصل روحاني" مع تعبير ما وقضاء ليال طوال لإعادة صياغة التفاصيل الواحدة لخمس أو ست مرات دون ملل!

عندما تجلس إلى حبيب في لحظة حب، وتصغي إلى كلماته، قد تتساءل هل كانت الكلمات موجودة قبله، قبل أن ينطقها! أم أنه بحديثه أوجدها! ستميل لتصديق كل الأفكار الصادرة عنه حتى غير العقلانية. صحيح أنك لن تصدقه إذا أخبرك في تلك الظروف المعاقة عقلا أن الأرض مستطيلة وأن الأشجار مستديرة الشكل، ولكنك ستنتشي لحديثه فقط لأنه يرسُمُه لك بحبر عشق فائض. بل وقد تتمادى لتتخيل معه الأمر! كذلك الشعر قد لا نؤمن بصوره ولكن تعابيره الجمالية تحتلنا، تدفعنا لتخيل صور خارقة جائعة للاعقل، في لحظات جمال ووعي لا يعي!


يتحدث المحبوب.. تتبخر كلماته غير العقلانية. يتحدث الشاعر.. تتبخر كلماته غير المنطقية، ولكن في الحالتين يعلق بالروح معنى لذيذ يظل راسخا بالقلب! صحيح أنها أحاديث ترحل بالعقل وتلغي القوالب وتكسر القوارير. صحيح أنها أحاديث تُعطِل وظائف كثيرة للعقل وتُلغيها بحُسن. صحيح أنها لذات تمضي بلا وجهة، بلا اتجاه. لذات شبيهة بلذة ضائع تحت القناديل المسائية في الحارات الضيقة.. تائه.. فقير لكل إرشاد عقلي ولكنه مستمتع!

تتجلى حلاوة الفنون في أنها تمنحنا إمكانية اختبار عواطف ليس لها كلمات تعبر عنها. نحن لا نفهم المشاعر التي تعترينا عندما نبكي من "اعتصار" نغم موسيقي مثلا. نحن لا نبكي عند سماع المعزوفة الصامتة لأنها حزينة أو سعيدة بل لأنها تزرع في أرواحنا مزيجا حسيا غريبا من عواطف متشابكة مختلفة تتراوح بين السعادة والحزن والنشوة والخدش والجرح والألم واللذة… أحاسيس نرى أنفسنا غير قادرين على فهمها أو وصفها. أحاسيس مُغايرة استثنائية مختلطة لا نستشعرها في مواقف الحياة العادية. أحاسيس غامضة ملتبسة لا تعبر عنها الكلمات التقريرية اليومية. مهما حُمنا حول المفردات والمصطلحات لا نجد لها كلمات واصفة. وهنا تكمن جمالية الفنون..

فإذا وجدنا كلمات تصف أو تُنتِجُ تلك المشاعر التي تزرعها القطعة الموسيقية بالروح، لن يكون هناك داع للقطعة الموسيقية، ولا للمقطوعة الشعرية سنكتفي بقراءة تلك الكلمات الميكانيكية الفيزيائية البديلة المنطوقة بشكل أصم لفهمها واستشعارها!

الرغبة تُوجع! ليست رغبة الكتابة فقط وإنما هي مجموعة من الرغبات المترابطة والمتشابكة كرغبة التعبير، رغبة تزعم كلمة على الملأ، رغبة السخرية من الوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. السخرية، تلك المُهَرِّجة التي لا ترتدي ربطة عنق. إن أصدق أنواع السخرية هي تلك التي لا تعتمد تعابير رقيقة ناعمة وإنما لغة واقعية شفافة حادة صادمة في قدرتها الوصفية.

فالهدف ليس إقناعك بفكرةٍ ما بلُغِةِ الشوكة والسكين الديبلوماسية البروتوكولية الهادئة المنمقة، وإنما تنفيرك من فكرة ما بإغراق كل الأصابع في أوحالها، بتعرية الجلد الناعم، بإزالة الضمادة المطهرة من على القيح النتن، دون "رتوش" أو قيود. الطبيب لا يعالج السرطان بتوزيع كلمات منمقة مهذبة على المريض وإنما يحرق الخلايا بالأشعة حرقا وقد يكسر عظامه تكسيرا… لمعالجته! الساخر "ينطق جمالا"، يُبدع الجمال.. بطريقته!

أجمل ما في الإبداع الإحساس بالحرية. وأجمل ما في هذه الحرية حرية اللغة. حرية الألفاظ والحروف والجمل والمعاني. ماذا يعني الحفاظ على "نقاء اللغة"؟ لا يعني أي شيء! "نقاء اللغة" تعبير عنصري مستحيل شبيه بـ"نقاء العِرق". ليست هناك لغة "نقية". إن مجرد التفكير في احتمال وجود لغة "نقية" يعني أنها لم تتواصل بباقي الحضارات. إن تبني لغة ما مفردات لغات أخرى ظاهرة لغوية "صحية" سليمة. هذا التلاقح لا يعني أن هناك لغة لها أفضلية على لغة أخرى، وإنما هناك لغة استجابت لمستلزمات الحياة والزمن، وجب مواكبة ما وصلت إليه بتجديد قاموس اللغة الأم لا بتحنيطه وعزله عن التطور، كتَبَنِّي المفردات الأجنبية التي تعكس أفكارا ومفردات غريبة عن المجتمع. يجب فقط أن يكون التبني ذكيا وسلسا.


من الغريب أن تُسمي السينما مثلا بـ"خيالة" نسبة للخيال كما يدعو لذلك بعض مناصري "النقاء اللغوي". يبدو المصطلح غير علمي ومناف للتطور الطبيعي للغة. كما يجب أن نكون مفتقدين فعلا لهذه الكلمة الدخيلة ولا وجود لمرادف يعبر عنها في اللغة الأم، فالضرر كل الضرر في إدخال مرادفات أجنبية لكلمات موجودة. إنها طريقة لقتل اللغة، تعويض مفرداتها بمفردات أخرى أو قواعدها بقواعد وبنى لغوية أخرى.

إن التحدث عن نقاء اللغة الفرنسية مثلا لم يكن، على مر التاريخ، سوى انعكاسا لمشاريع أيديولوجية وسياسية طبقية وعنصرية أهدافها لم تكن يوما لغوية. أهم شيء في اللغة هو التواصل؛ أن يفهمني المتلقي، أن يدرك قارئ هذا العصر ما أقصده. إن تبني المنهج العاطفي المبالغ فيه، بمنع أي لغة من التطور بدعوى الحفاظ على الهوية ينسف قدراتها التواصلية. هو حالة من النوستالجيا غير الموضوعية وصلابة فكرية مغلقة مضرة.

كن حذرا! لقد ترك أحدهم الصنبور مفتوحا، فتسرب الخيال من الحوض. لقد فاض، فأغرق الحمام، ثم تسرب للدور الأرضي، إنها الآن تتقاطر أفكارا على جريدة الجار! هذا ما يحدث مع الكاتب، يُنتج نوعا من الفيض المُتسرب الذي يتقاطر على الجرائد والأوراق والكتب… يبلور الفكرة الواحدة ويحملها لأعالي الخيال ليُسقِطَها في قلب الحشا.

هناك نساء و"لا نساء". هناك أفكار و"لا أفكار". هناك جاذبية توقع في الحب وجاذبية توقع في الكتابة. هناك صَبٌّ تفضحُهُ عيونه وصبٌ تفضَحُهُ حروفُه!


سميرة فخرالدين

واعتنقت دين الحب في طليطلة

 



واعتنقت دين الحب في طليطلة




مرت بجواري امرأة في الثلاثينيات تتزين بقلادة، وقلادتها تتزين بصليب. لم يعد الطريق الذي يلُفني فارغاً، توقفتُ بلقائها عن مراقبة حذائي وخطواتي، وعن رمي ظلالي على الإسفلت. اقتربَت تسألني بلغة غريبة عن مكان ما. أدركتُ بعدها أنها كانت تسأل بالبرتغالية عن متحف الكنيس اليهودي ابن شوشان أو كنيسة سانتا ماريا لا بلانكا كما تُعرف حالياً في طليطلة بإسبانيا. كانت تتحدث بالبرتغالية وكلمتها أنا بالإسبانية، والغريب أننا فهمنا بعضنا البعض. ملأ تعبيرنا الجسدي فراغات التواصل اللفظي الواسعة متجاوزاً اختلاف اللغتين. سألتني هي المسيحية أنا المسلمة عن كنيس يهودي، يال الوصال الثلاثي الذي يُرجى وصاله!

لِمَ التناحر؟ سؤال ينشر صحراء قاحلة برأس صديقي المسيحي، يُسقِط قطرات مِدادي على ثوب صديقي المسلم، ويُنشد قلقا أحمر بقلب صديقي اليهودي من الصدغ للصدغ. هَوَت طُليطلة في القرن الحادي عشر، هَوَت عن الأندلس في بَين وهوى ناسُها عن الحكم الإسلامي بلا أين. هويتُ إليها ارتقاءً بأمان، لا شيء يشغلني إلاها، وهي تشغلني عني، عن نفسي، عن حاضري، عن زماني بالزمان وعن مكاني بالمكان. كل محاولات الالتحام التحمت بحس يُحِس ولا يكتفي ولا يعود منها إلى نفسي، فكانت للروح روحاً وأُنسِ. اندفع نهر تاجة بطليطلة إسبانيا نحوي، حملني مع رفاق الخيال الثلاث على ضفاف رقراقة عصية التلاقي ما بين مودة وتناطح وفراق.


لا خيول تمتص الذباب عن العيون، تربع الخذلان عرش المقام، أين السبيل؟ لقد ضللنا السبيل ونسيم السماحة تبعثه السنابل إلى لا أحد. تدفقت مقلة نهر تاجة وانصبت بمدارها نحوي، نزعت عن فضولي أغطيتي. أيقظت جنسية الخلاف الانساني المُرّ مذ قُتِلَ هابيل إلى أن تسامحت الثقافات الثلاث بالمدينة وتناحرت. تربعت طليطلة على قمة تلة، أطلقت شعرها المسفوح بالمعالم على ضفاف نهر تاجة. وأخذت تصرخ في وجه السياح "هيت لك". احتضنت آثارا مفكوكة الأزرار وأخذت تسير بها كقطار وجع على القمة جنباً إلى جنب، فتسمَّت بذلك "المدينة المتحف". لا زالت أزقتها تحتفظ برموز تاريخية للثقافات الثلاث اليهودية، المسيحية والإسلامية التي تعايشت بها لفترة طويلة فأُطلق عليها لقب: "المدينة المتعددة الثقافات"، كما عُرفت في فترة الحكم الاسلامي باسم "مدينة التسامح".

عُيِنت طليطلة كموقع تراث ثقافي عالمي من قبل اليونسكو سنة 1986 باعتبار خاصيتها المنفتحة على الثقافات المختلفة ومكانتها التاريخية كواحدة من العواصم السابقة لإسبانيا إلى غاية سنة 1560.  دخلتُ الكون يوم دخولي طليطلة، دخلتُ كوناً جديداً لم أكن يوماً فيه. عالم الأمس مات فيّ وحييتُ بموته كثيراً، وها أنا قد أصبح لقلبي عيون كثيرة ترسم البشر على اختلافهم أُمّاً لا غُمة. هنا ساحة "سوكو دوبير" أو سوق الدواب كما سُميت في الحقبة الأندلسية. تعتبر المركز العصبي للحياة الاجتماعية لطليطلة منذ العصور الوسطى. اشتهرت الساحة أيضاً بعمليات الإعدام العلنية التي كانت تنظمها محاكم التفتيش بعين المكان. هنا الجسر الروماني الذي لا زال يحتفظ باسمه العربي "ألكانترا" نسبة لـ "القنطرة".

هنا حصن ألكاثار أو "القصر" كما سُمي في فترة الحكم الإسلامي، يقع في أعلى جزء من مدينة طليطلة. وضعه المتميز جعله مكاناً ذا قيمة عسكرية استراتيجية كبيرة، شُيد من طرف الرومان. قام كل من عبد الرحمن الثاني في عام 836 وعبد الرحمن الثالث عام 932 بتجديده وتوسيعه. كما عرف المبنى سلسلة من التغييرات المعمارية الهامة بعد نهاية الحكم الإسلامي التي استمرت إلى أن اكتسى شكله الحالي. عُيِنَ كمتحف حربي سنة 2010 ويستطيع زائره تأمل بعض رصاصات الحرب الأهلية الإسبانية التي تركت آثاراً على جدران المبنى. هنا مدرسة طُليطلة للمُترجمين التي ارتبط اسمها تاريخيًا بمُختلف عمليات الترجمة التي حولت طليطلة إلى المدينة النواة التي نشرت الثقافة العربية واللاتينية والإغريقية إلى مختلف أرجاء إسبانيا وأوروبا.

هنا كاتدرائية طليطلة أو كاتدرائية القديسة مريم التي شُيدت على أنقاض مسجد أندلسي. هنا مسجد باب المردوم الذي يمسح دمع سحابة قادمة من صخرة القدس. المسجد عبارة عن بناء مربع الشكل تم توسيع مساحته الصغيرة بعد أن حُول إلى كنيسة. يضم أعمدة وتيجان وأقبية أو هياكل معمارية عميقة من الداخل. ومن الناحية الإنشائية، ينقل التصميم الموحد الأحمال من هيكل السقف إلى الجدران عن طريق أعمدة، بُني المسجد سنة 999 ميلادية. حُول إلى كنيسة تُسمى نور المسيح سنة 1085م ثم إلى متحف يحمل اسم "مسجد نور المسيح".

تقول الأسطورة أن هذه التسمية تعود إلى يوم دخول ألفونسو السادس إلى طليطلة، عَلق حصانه حسب الرواية الشعبية في قطعة بلاط، وأمام هذه العرقلة في السير اهتدى لضرورة دخول المسجد وما أن دخل حتى تراءى له نوراً مشعاً يتسلل من أحد الجدران. قام بالحفر، فوجد رسماً يُصور المسيح إلى جانب مصباح منير لم ينطفئ نوره منذ أكثر من ثلاثمائة عام. بمعنى أن النصارى قاموا بإخفاء هذه العناصر داخل الجدار لمنع أن يتم تدنيسها من طرف المسلمين. المؤكد أن هذه القصة ليست سوى أسطورة شعبية تم نشرها للترويج لما سُمي "بحروب الاسترداد" لدى الساكنة المسيحية.

undefined

 

وإن اختلفت اللغات والثقافات والأعراف والتقاليد والديانات، تبقى المشاعر الإنسانية واحدة. قد يصعُب على غير المتحدثين باللغة العربية فهم معنى كلمات عربية غير مصحوبة بالترجمة مثل: "حب، حنان، معاناة، حزن.." لكن الجميع يتعاطف مع نظرة حزينة، يرِقُ للمسة حب، يتحرك للفتة حنان، يهتز لمشهد معاناة.. قد تختلف المعتقدات الدينية، ولكن قد يهتز قلب مسلم عند سماع ترانيم كنسية رقيقة، قد تتحرك روح مسيحي عند سماع صوت الأذان فجراً حين يختلط أذان المسجد بأذان المسجد المجاور وأذان المسجد الذي بعده في سكون الليل، فيخلق مزيجاً سمعياً رائق في عالم من السكون، وفي حضرة عشوائية التردد المختلط المتفاوت لا يضيع الجمال بل يزداد بهاءً، جمال سمعي طبيعي لا يحتاج لتنسيق بين هذا المؤذن وذاك.

وكما يقول بروفيسور الرياضيات الأمريكي المسلم جيفري لانج "صلاة الفجر بالنسبة لي هي إحدى أجمل الشعائر الإسلامية وأكثرها إثارة، هناك شيء خفي في النهوض ليلاً – بينما الجميع نائم – لتسمع موسيقى القرآن تملأ سكون الليل، تشعر وكأنك تغادر هذا العالم وتسافر مع الملائكة لتمجد الله بالمديح عند الفجر". لا يمكن اعتبار إسبانيا عدواً للأندلس ولا الأندلس عدواً لإسبانيا، بل الأحرى اعتبارهما عنصرين لحضارة واحدة. ليست هناك حضارة انتقائية، ليست هناك حضارة غربية مقابل حضارة إسلامية وإنما هناك حضارة انسانية شاركت فيها مجموعة من الأعراق والثقافات. "الحضارة الاسلامية" وليدة حضارات مختلفة و"الحضارة الغربية" وليدة حضارات مختلفة وبالتالي فإن أي نظرة عدائية باعتبار هذه "الحضارة" غلبت تلك أو هذه "الحضارة" تفوقت على تلك لا بد أن تكون وليدة نظرة قاصرة.

وحده حزب الإنسان قادر على تجاوز هذه النظرة العدائية للغير والتي تعود إلى نشر مخدرات دينية تفريقية لرعاية مصالح سياسية بحتة. لا يمكن تبني مشروع حضاري إنساني ثقافي متكامل طالما نُكدس شحوماً على مفاصلنا باسم الدفاع عن الايديولوجيا الخاصة. طالما هناك مسيحي أو يهودي أو مسلم، يتبنى أيديولوجية لا تعترف بالآخر وتعتبره عدواً. طالما هناك من يضع قبعة إسمنت أيديولوجي على رأسه تعيق تدفق الدورة الدموية الحضارية المتعددة الثقافات إلى رأسه. يقول عبد الله العروي: "إن إنكار الثقافة الغربية لا يشكل في حد ذاته ثقافة، والرقص المسعور حول الذات المفقودة لن يجعلها تنبث من رمادها".

ويقول جلال الدين الرومي: "قبولُك لي كإنسَـان أهمُّ عند الله من سؤالِـك عن إيماني فنحنُ غصُون من شجرةٍ واحدة، تحنُّ إلى أصلها! مر الإمام علي عليه السلام ذات يوم مع أحد أصحابه على كنيسة قال صاحبه وهو يشير إلى الكنيسة: "طالما أُشرك بالله هاهنا"، فغضب عليه الإمام قائلاً: "لا تقل ذلك، بل قل طالما عُبد الله ها هنا". يقول إليف شفق: "من السهل أن تحب إلهاً يتصف بالكمال، والنقاء والعصمة. لكن الأصعب من ذلك أن تحب إخوانك البشر بكل (نقائصهم وعيوبهم). وما لم نتعلم كيف نحب خلق الله، فلن نستطيع أن نحب حقاً ولن نعرف الله حقاً". وأخيرا، يقول ابن عربي:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة ..فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ.. وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ..ركائبه، فالحب ديني وإيماني


 سميرة فخرالدين