‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات لغوية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات دراسات لغوية. إظهار كافة الرسائل

من راقب اللغة مات فضولاً

 


من راقب اللغة مات فضولاً




نحن نعيش في سجن اللغة، فالكلمات والنصوص والأصوات والحركات والجدران والنوافذ والشوارع والفضاء والأفعال التي نقوم بها وتلك التي نفكر في القيام بها ليست في نهاية المطاف إلا لغة. ما من شيء في هذا الكون يستطيع الفرار من قيدها، إننا نخلق الكلمات، نُعَرِّفُ بها وهي بدورها تخلقنا في أذهان الآخرين وتُعرِّفُ بنا. لا يمكن التخلص من اللغة لأن كل ما يحيط بنا هو لغة، حتى عندما نرغب بدراسة علوم اللغة فإننا سنستعمل اللغة. إنها العلم الوحيد الذي يُدرَس باستعمال نفسه، فتصبح اللغة غاية وفي نفس الوقت وسيلة.

إنك كمُتلَقٍ لن تسمح لي باستبدال عبارة “صباح الخير” بعبارة أخرى عشوائية كأن أقول مثلًا: “البحر أزرق” لأقدم لك تحية صباحية، إنك كقارئ ستُجبرني على كتابة هذه التدوينة عن اللغة عن طريق احترام ترتيب حروف كلمة ”لغة” ولن أستطيع إعادة ترتيبها عشوائيًا كأن أكتب ”ت ل غ” مثلًا! وستدفعني لاحترام ترتيب المفردات داخل الجمل فأنا لا أستطيع قول “اللغة عن تدوينة أكتب” وإنما “أكتب تدوينة عن اللغة” لأن الأمر ببساطة سيبدو غريبًا وخاليًا من أي معنى منطقي.

عادة ما نعتقد أننا نُقَيِّدُ اللغة، ولكن اللغة هي الأخرى تقَيِّدُنا، تستعمرنا، تعتقلنا! إننا لا نستطيع تحقيق أي تواصل لغوي صحيح إلا عن طريق احترام نظامنا اللغوي. إننا نركع كل يوم لقواعد اللغة سواء كانت لغة منطوقة أم مكتوبة أم إيمائية. إننا نستعمل اللغة وهي بدورها تستعملنا، فاللغة سلطة صارمة ومؤسسة جَبَّارة وقيدٌ حازم خانق لا يمكن التحرر منه لتحقيق أي تواصل شفهي أو كتابي أو إيمائي بشكل منطقي صحيح كامل.

هل يتجرد التفكير من اللغة؟

لعل من المُبهم تفسير معنى كلمة “وردة” مثلًا على أنها (جنس نباتي، وريقات متراصة بساق…) فالطفل الصغير جدًا قد يدرك ما “الوردة” دون إدراك أنها (جنس نباتي، وريقات متراصة بساق…)، فما يُنسب كمعنى للوردة هنا يبدو أكثر تعقيدًا في ذهن الطفل من “الوردة” ذاتها وبالتالي ما يُطلق عليه معنى يخلو في ذهنه من المعنى، إننا أمام صورة ذهنية وقابلية تعلمية فطرية تربط أصوات الكلمة بوجودها في المحيط الخارجي، وما نبحث عنه للربط بين الكلمة والمفهوم ليس المعنى وإنما أمر آخر أكثر تعقيدًا.

تؤثر اللغة على طريقة رؤيتنا للوجود وفهمنا له وتفاعلنا معه

لعل من الخطأ ادعاء أننا نستعمل الألفاظ للتفكير، إننا نفكر أولًا ثم نترجم أفكارنا لكلمات، نترجمها لكلمات فقط إذا كان ذلك ضروريًا. يُميِّزُ عالِم اللغة الألماني فيلهلم فون همبولت مرحلتين يمر منهما الفكر: مرحلة تفكير أولية سابقة لمرحلة النطق، وهي تتميز بتدفق سيل من الأحاسيس المشوشة والمشاعر الملتبسة والتصورات المخلوطة والرغبات المخفية ثم مرحلة تفكير تحليلية مُعارضة للمرحلة الأولى من حيث نسقها التحليلي المرتَب في كلمات منظمة مترجمة نظريًا جاهزة للنطق.

تُشَكِّلُ اللغة شرطًا للتفكير، فقط عندما يبلُغُ مرحلته المنطوقة أو مرحلة التفكير المنطوق، فاللغة هي الأداة التي تسمح للفرد بتحقيق قفزة من مرحلة التفكير العشوائي الأولي المُبهم إلى مرحلة التفكير المنظم نظريًا، إنها أداة فكر وتواصل، أداة معرفية ونظام ناقل للمعلومات.

تؤثر الثقافة في اللغة والعكس صحيح

درس عالم النفس واللغوي بيتر جوردون من جامعة كولومبيا، الحتمية اللغوية في بحث – نُشر في مجلة Science عام 2004 – عن “البيراها” وهي أحد الشعوب الأصلية الموجودة في غابة الأمازون بالبرازيل، من مجتمعات الصيد وجمع الثمار، فاكتشف أن لهذه القبيلة ثلاثة مصطلحات فقط للإشارة إلى الأرقام وهي: hoi “واحد” وhoí “اثنان” وaibai “كثير”، ونتيجة لذلك يجد المتحدثون صعوبة في التعامل مع كميات أكبر من ثلاثة، بالإضافة إلى ذلك، ليس لديهم كلمات للألوان، ولا يستخدمون جملًا نسبية، وهذه الملاحظات ليست إلا تأكيدًا قويًا على وجود علاقة تبادلية دائرية لا نهائية تربط بين اللغة والثقافة، فلا تخلو اللغة من الثقافة ولا تخلو الثقافة من اللغة، فاللغة منتج ثقافي وهي في نفس الوقت شرط لوجود الثقافة.

تؤثر اللغة على طريقة رؤيتنا للوجود وفهمنا له وتفاعلنا معه، حيث يزخر العالم بطرائق تفكير مختلفة وتصورات ثقافية متنوعة، الأمر الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتداول مختلف الشعوب لأنظمة لغوية متباينة. في جميع اللغات، هناك أمثلة واضحة لكيفية تصورنا للواقع بشكل مختلف عند الانتقال من لغة لأخرى، ولتفسير ذلك، يستشهد اللغوي ماريو باريني في إحدى مقالاته بمثال من اللغة الروسية، إذ يُطلق الروس على اللون الأزرق تسميتين مختلفتين نطقًا وكتابة، بينما تكتفي لغات أخرى بوصل كلمة ”أزرق” بمفرد آخر إضافي لتمييز درجة اللون، ويرى أن ذلك لا يعني أن المتحدث الروسي يرى تلك الألوان بشكل مختلف عن بقية المتحدثين الذين لا تتوافر لغاتهم إلا على تسمية واحدة للون الأزرق وإنما يعني أن اللغة الروسية تنظم رؤية متحدثيها لهذه النقطة بشكل مختلف. كما يدرج اللغوي ماريو باريني مثالًا من لغة الإسكيمو إذ تحتوي هذه اللغة على نحو 40 مرادفًا لكلمة ثلج وأكثر من 30 تسمية للون الأبيض.

كيف نشأت اللغة؟

لعل من الخطأ ادعاء أن اللغة اخترعها البشر للتواصل، إن قول ذلك شبيه بادعاء أن الإنسان ابتكر عينين لرؤية أخيه الإنسان، وأذنين لسماعه! لعل العكس هو الصحيح، فاللغة موجودة فينا، إنها تلك القدرة على اكتساب واستخدام نظام معقد للتواصل، فبفضل وجود اللغة خلقنا التواصل، واللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو العربية ليست إلا أحد الأمثلة المحددة من هذا النظام، ليست إلا نسق من الإشارات والرموز الذي تشكل نتيجة لتلك القابلية كأداة من أدوات المعرفة والتواصل.

يرى عالم اللسانيات والمؤرخ والناقد والناشط السياسي والفيلسوف الأمريكي نعوم تُشُومِسْكِي أن الإنسان لا يتعلم اللغة وإنما تُشكل هذه الأخيرة جزءًا من معداته الوراثية الجاهزة التي يطورها ويصقلها ويحفزها بقدرات أخرى خارجية مكتسبة، أي أن تداول الكائن البشري للغة، قائم أولًا وقبل كل شيء على وجود مسبق لقابلية وراثية أما ما يرافقها من عوامل بيئية تساعد على اكتمال خصائص النضج الفكري لديه واكتمال المدارك ووضوحها، واكتساب خبرة التفكير المنظم فهي ليست إلا مجرد آليات تحفيزية وتحريكية لتلك القابلية الجاهزة.

تُحيل بعض المفردات المتداولة بشكل متشابه في العديد من اللهجات العامية العربية، ألا وهي “السميقري” باللهجة الجزائرية و”السقنطري” في تونس و”الصّْمِيقْلِي” في المغرب و”السميطري” و”السفينقري” في ليبيا، على البرد الشديد

يكشف علم الآثار البقايا المادية التي خلفها الإنسان القديم وعلى نفس النحو تكشف الإتيمولوجيا أو علم أصل الكلام ألفاظًا أصلية شكّلَت اللفظ الأم الذي تفرعت عنه مجموعة من المفردات المتشابهة في العديد من اللغات واللهجات، فكلمة enthousiasme الفرنسية التي تعني حماس، وشبيهاتها في كل من الإسبانية entusiasmo والإيطالية entusiasmo  والكتلانية entusiasme والبرتغالية entusiasmo ليست في أصلها الإتيمولوجي إلا تطورًا لعبارة إغريقية قديمة تعني: “نفحة داخلية من الله”.

تُحيلُ بعض المفردات المتداولة بشكل متشابه في العديد من اللهجات العامية العربية، ألا وهي “السميقري” باللهجة الجزائرية و”السقنطري” في تونس و”الصّْمِيقْلِي” في المغرب و”السميطري” و”السفينقري” في ليبيا…، على البرد الشديد، ويُرجح أن الأصل الإتيمولوجي لهذه المفردات يعود لأصل أمازيغي، إذ تعتبر كلمة “الصميقلي” كلمة أمازيغية مركبة من “الصّْمِ” و”إقلي” أي “تجمدت الوزغة” بمعنى أن هناك بردًا قارسًا جدًا حتى إنه يجمد الوزغة.

يُحيل علم الاتيمولوجيا أيضًا على طرائق التفكير القديمة وأسرار معيشة الإنسان القديم وكيفية تصوره للكون وللعلاقات الاجتماعية، عندما تخطر ببالك ذكرى جميلة تستوقفك طويلًا، تذكَّر معها أن كلمة “تَذَكَّرَ” باللغة اللاتينية تعني في أصلها الإتيمولوجي “عودة المرور عبر القلب”! اللاتينية لا تقول: “خَطَرتَ ببالي” وإنما “عبرتَ من جديد عبر قلبي”، ويتمثل ذلك في فعل “Recordari” “تَذَكَّرَ” الذي يتكون من “Re” التي تعني “من جديد” و”cordar” من “cordis” بمعنى “القلب”، ومنها اشتقت اللغة الإسبانية فعل “Recordar تَذَكَّرَ، وبالتالي “تذكرتُك” بالإسبانية ليست في أصلها اللاتيني إلا “مررتَ من جديد بقلبي”.

اللغة كفيلة بتغيير العالم

تعتبر اللغة سيفًا سياسيًا ذا حدين، فهي سلاح داعٍ لوحدة الشعوب وممزق لها في نفس الوقت، حيث تميل الشعوب للتوفيق بين الحدود اللغوية والحدود الوطنية وهذا ما ينعكس على الكثير من الحركات السياسية المنتشرة في مختلف أرجاء العالم. تتبنى بعض الحركات الأمازيغية مثلًا كلمة “تامازغا” وهو لفظ محدث باللغة الأمازيغية للإحالة على أرض الأمازيغ في شمال إفريقيا والمغرب العربي.

يُصر الكاتالونيون والباسكيون على الاعتزاز باختلاف ثقافتهم عن ثقافة غيرهم من الإسبان لتداولهم الباسكية والكتلانية وهي لغات رسمية مستقلة ومختلفة عن اللغة الإسبانية، ويشعر المواطن المكسيكي أنه أقرب ثقافيًا للإسباني بدلاً من جاره الأمريكي الناطق بالإنجليزية ويعود ذلك لتداول كل من المكسيكي والإسباني نفس اللغة أي اللغة الإسبانية، فأكبر التحديات التي تواجهها الحكومات تتجلى في اختبار مدى قدرتها على تشكيل مواطنة مفتوحة وتعزيز عدالة اجتماعية وترسيخ مبادئ عيش مرنة في ظل ابتكار عالم منفتح على التعددية اللغوية.  


 سميرة فخرالدين

العثور على 168 قصيدة موريسكية باللهجة الأندلسية ، اكتشاف يثبت أن الموريسكي لم يفقد ثقافته



العثور على 168 قصيدة موريسكية باللهجة الأندلسية، اكتشاف يثبت أن الموريسكي لم يفقد ثقافته

 

مقال نُشِرَ بتاريخ:  01.02.2017 -الساعة  17:44 ، على جريدة “باينتي مينوتوس”.

 

ترجمة سميرة فخرالدين

 

 

  • أبدعت الأقلية الموريسكية بلُغَتِها الأم شعرا في الحب و الدين ، وفي الأحداث المعاصرة و الأساطير.
  • يستند جوهر البحث الذي قامت به كل من ‘آنا لبارتا’ و ‘كارمن برثيلو’ على 56 قصيدة نُسِخَت في مخطوط واحد مكون من 180 صفحة.
  • تشير الإحصائيات إلى أن أعلى نسبة من الساكنة الموريسكية قطنت مملكة بلنسية.
  • تعرضت هذه الأقلية للطرد من شبه الجزيرة الايبيرية بأمر من الملك فيليب الثالث سنة 1609.

 

تُزاول كل من “كارمن برثيلو” و “آنا لبارتا” مهنة التعليم العالي بجامعة بلنسية، تخصص دراسات عربية و إسلامية. بعد اكتشاف القصائد، تقاسمت الباحثتان عمليتي الترجمة و النشر. يبلغ عدد القصائد المُكتشفة 168 قصيدة منظومة باللهجة الأندلسية. تعود لمورسكيين عاشوا ببلنسية في القرن السادس عشر. يؤكد اكتشاف هذه المؤلَّفات، التي صُودِرَت حينها من قِبَل محاكم التفتيش، أن الأقلية الموريسكية أبدعت بلُغَتِها الأم شعرا في الحب و الدين، في الأحداث المعاصرة و الأساطير، مما يؤكد أن اللغة العربية كانت لغة ثقافة في ذلك الوقت(1).

 

كرَّسَت الباحثتان حوالي 40 عاما للبحث العلمي في مجال اللغة و الثقافة الموريسكية. تكمن أهمية هذا الاكتشاف، في  إثبات مدى حيوية الأدب المُدَوَّن بالعامية الأندلسية  في شبه الجزيرة الايبيرية إلى غاية أوائل القرن السابع عشر، و لعل استمرار تداول القصائد القديمة و نظم أخرى جديدة لخير دليل على ذلك. تقول “آنا لبارتا” : ” استعمَل المجتمع الموريسكي البلنسي لهجته العربية العامية بشكل يومي. تدحض هذه القصائد فكرة إقصاء هذه الأقلية المُستضعفة. لم يفقد موريسكي بلنسية ثقافته و لم يعش حياة بربرية “.

 

الموريسكيون هم المسلمون الذين خُيِّروا سنة 1520 بين التحول للمسيحية و الخضوع للتعميد الإجباري أو الطرد . استطاعوا  الاندماج تارةً في نمط حياة المسيحيين القدامى، ذلك الاندماج الذي لم يتحقق في أغلب الأحيان. تعرَّض الموريسكيون للطرد في أوائل القرن السابع عشر من ممالك شبه الجزيرة الايبيرية بموجب مرسوم ملكي صادر عن فيليب الثالث سنة 1609.

 

يستند جوهر البحث الذي قامت به كل من “آنا لبارتا” و “كارمن برثيلو” على 56 قصيدة منسوخة في مخطوط واحد مكون من 180 صفحة، محفوظ حاليا في المكتبة التاريخية لجامعة بلنسية.  اقتفت الباحثتان أيضا أثر الوثائق المحفوظة بالأرشيف التاريخي الوطني لمدريد، حيث توجد مواد صودِرَت يومها من قِبَل محاكم التفتيش من موريسكيين بلنسيين، كما اقتفتا أثر الوثائق المحفوظة بالأرشيف العام لجامعة بنبلونة، بالإضافة إلى وثائق أخرى من الأرشيف التاريخي الإقليمي لمالقة.

 

” ضاعت اللهجة الأندلسية الخاصة بموريسكيي بلنسية مع عملية الطرد. مما دفعنا لاستنتاج معنى القصائد و بنيتها من الوثائق ذاتها.” تُصرح “آنا لبارتا”.

 

إن جُلّ الكتابات المعروفة عن موريسكيي بلنسية حتى الآن هي عبارة عن رسائل، وصفات طبية، شروحات تجارية أو تفسيرات متعلقة بالمحاسبة وغيرها. يهدف هذا البحث المُستجد  إحياء التراث الثقافي الخاص بالموريسكيين الذين عاشوا في بلنسية القرن السادس عشر.

 

يعتبر بحث الأستاذتين الجامعيتين على قدر من الأهمية و ذلك لاهتمامه بدراسة الماضي الموريسكي في بلنسية. فمن بين كل أراضي شبه الجزيرة الايبيرية، سجلت الإحصائيات تواجد أعلى نسبة من الموريسكيين في هذه المملكة.  ومع قرار الطرد، أبحر إلى شمال افريقيا ما بين 120.000 و  130.000 موريسكي من ساكنيها الذين يبلغ تعدادهم حوالي 400.000 موريسكي. لقي آلاف الموريسكيين حتفهم في المواجهات التي سبقت عملية الطرد في عدة معارك نذكر من بينها : معركة إسبدان، كبايو بيردي، و مويلا دي كورتيس. كما  تعرض الموريسكيون للقتل خلال تنقلهم في القوافل الطويلة المتجهة نحو موانئ الابحار. و في حالات أخرى استطاعوا الرحيل نحو منفاهم الأخير و لكن دون أطفالهم الذين تعرضوا للاختطاف (2).

 

بعد اكتشاف النصوص، واجهت الباحثتان صعوبة نسخها. من الواضح أن القصائد قد كُتِبَت في الكثير من الحالات عن طريق الإملاء، وِ بكلمات مُتَصِلة خَطِيًّا ببعضها البعض. تؤيد الباحثتان “آنا لبارتا” و “كارمن بارثيلو” فرضية أن القصائد المُكتشفة عبارة عن مُؤَلفات موسيقية نُظِمَت لتُؤدَّى بشكل علني. يتعلق الأمر بمؤلَّفات متأخرة، معظمها لم يُنشر من قبل. حُفِظت القصائد على الأرجح على مر السنين كمخطوطات عربية ذات موضوع شعري أو كقصائد مُدوَنة بالعربية على أوراق فردية مستقلة، خُزِنت بالصدفة و بشكل عرضي بين وثائق أخرى.

 

حدث فرار الموريسكيين من منطقة كالوسا دن سارايا البَلَنسية في مُؤَلَّف

 

نُشِرَ بحث أستاذتي جامعة بلنسية سنة 2016 تحت عنوان “كتاب أغاني موريسكية”. يتكون  المؤلَّف من مجموعة شعرية مُنقطعة النظير و فريدة في بابها على مستوى الأدب العربي العامي الشعبي بشكل عام.

 

تتنوع مواضيع هذه القصائد ما بين الدين و الحب و الأساطير و مغامرات شخصيات الإسلام الأولى و قصص الأنبياء المذكورة في الكتاب المقدس، نذكر من بينها قصة محاورة عيسى للجمجمة (3) . كما تروي بعض القصائد المُسْهَبَة أحداثا معاصرة، كاستيلاء الأتراك على رودس (1522)، و حصار شارل الخامس للجزائر  (1541) ، بينما تنتقد أخرى سلوكيات السلطات المسيحية ، الكنيسة و محاكم التفتيش.

 

تغنَّت الساكنة الموريسكية البلنسية بحدث فرار الموريسكيين من منطقة “كالوسا دن سارايا” سنة 1580. يتعلق الأمر بعملية هروب من بعض المناطق البلَنسِيَّة ألا و هي : ” الغار”، “كالوسا” و “بولولا”.  تمكن الموريسكيون من الفرار دفعة واحدة بمساعدة حاكم الجزائر الذي أرسى 23 سفينة في لاس بينياس ديل ألبير (اليوم سييربا خيلادا) بمساعدة 1.800 شخص، بهدف تهريب كل الموريسكيين من كالوسا؛ بينما اكتفى المسيحيون القدامى بالدفاع عن القلعة ( 4).

 

من بين القصائد المُكتشفة، تروي القصيدة رقم 13 من مُؤَلَّف “كتاب أغاني موريسكية” الحدث كما يلي:

 

” أما بعد،/ أيها الحُضَّار!/ اسْمَعُوا وَعُوا !/ تعالوا و اسمعوا!/ مقطوعة جمالٍ جللِ، بعد اليوم لن تنجلي ! : / قصة “كالوسا”، “بولولا” و “الغار” / أيها الحضور!/ أيها الحُضَّار!/ لقد كان يوم ثلاثاء،/ قُبيلَ الظهيرة بساعتين،/ هلَّ مسلمون من البحر علينا  /  نحو كالوسا مُتَّجِهينا …/ تقدَمَ “الرايس”، فكان من القائلينا:/ “أيها الكرام!/ لقد أتيتكم اليوم/ لأحملكم لأرض الإسلام/ بكل الأسطول أتيتكم. / من أرض النصارى، سأخرجكم. / رجلا  أو امرأة؟! لن أستثني أحدا منكم!/ جميعا.. بالتساوي، سأحملكم!  (5).  

 

يتعلق الأمر، حسب “كارمن بارثيلو”  و “آنا لبارتا” : ” بحدث نال استحسان العامة. لقد كان الموريسكي منهكا من مُضَايَقَات السلطة المسيحية و إملاءاتها، مُتعبا من تهتك رجال الدين و الجوار”. سبق هذا الهروب عدة محاولات أخرى، نذكر من بينها، دائما حسب الباحثتين، ” المحاولة الأولى التي وقعت سنة 1579، حيث فر نحو شمال افريقيا، من “كالوسا” و “بولوب” أكثر من 40 شخصا”.

 

الباحثتان

 

تُدَرِّسُ “كارمن برثيلو” و “آنا لبارتا” اللغة العربية بجامعة بلنسية، كلية فقه اللغة و الترجمة و التواصل. قبل اللحاق بجامعة بلنسية سنة 1995، درَّسَت لبارتا بجامعة برشلونة، سرقسطة و قرطبة. بينما  مارست كارمن بارثيلو معظم نشاطها الأكاديمي بجامعة بلنسية، حيث عُيِنَت كأول عميد للكلية.

تتخصص الباحثتان في دراسة العامية الأندلسية. و قد كرستا أكثر من 40 سنة لدراسة اللغة، التاريخ، الثقافة، الأعلاَميات (دراسة أسماء الأعلام)، و الانتاجات الكتابية و الأدبية الخاصة بمسلمي بلنسية، سواء منذ بدايات القرن الثامن إلى غاية طردهم سنة 1609 بشكل عام، أو ما بين القرنين الخامس عشر و السادس عشر بشكل خاص.

 

نَشرَت الباحثتان عدة كتب و مئات المقالات، بشكل فردي أو مشترك. من بين الدراسات التي ارتكزت على وثائق عربية الأرشيف، نذكر على سبيل المثال: “أقليات مسلمة في إقليم بلنسية” (1984) ل”كارمن برثيلو” ، “دراسة أسماء أعلام المورسكيين في بلنسية” (1987) ل “آنا لبارتا” ؛ “أرشيفات موريسكية” (2009) الذي نُشِرَ بتعاون بين الباحثتين و “بلنسية العربية في النثر و الشعر” (2011).

 

الموريسكيون في بلنسية

 

في بلنسية القرن السادس عشر، عاشت معظم الساكنة الموريسكية في المناطق الجبلية، بعيدا عن مراكز السلطة. أما في المدن الرئيسية  لمملكة بلنسية : كشاطبة، بلنسية، غانديا، دانية و أُورِيُولَة، فلقد عاش الموريسكيون في حالة عزلة بالضواحي. عند حدوث عملية الطرد، كانت الأغلبية الموريسكية تقطن المحور الذي يمثل اليوم المناطق الواقعة ما بين “لاريبيرا ألتا” بالشمال و “لامارينا باخا” بالجنوب. و هي أراض ظلت عمليا فارغة بعد عملية الطرد. كما تجدر الإشارة أيضا لمركز آخر على قدر من الأهمية ألا و هو نواحي “سييرا دي اسبادان”.

………………………………………………………………………………

هوامش المُترجِم:
(1)مارست السلطات الكاثوليكية ومحاكم التفتيش ضغطًا على المسلمين للتخلي عن الإسلام، واعتناق المسيحية، والتحدث بالقشتالية بدل العربية وغيرها من الانتهاكات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية الأندلسية؛ فَخُير المسلم سنة 1501 بين التحول للمسيحية أو الطرد والنفي خارج أرض الوطن. وفي ظل هذا القرار قرر هؤلاء «المسيحيون الجدد» ممارسة الإسلام خفية، ونصرة البقية الباقية من تراثهم، وثقافتهم، وهويتهم باللجوء لاستعمال لغة «الألخميادو» السرية (أو عجمية الأندلس)؛ وهي لغة رومانية قشتالية كُتبت بأحرف عربية. إلا أن هذه الوثائق تبرز أن الموريسكي تداول إلى جانب الألخميادو، العامية العربية الأندلسية.
تتجلى أهمية المخطوطات المكتشفة في كونها مخطوطات دُوِنت باللهجة الأندلسية.  تعتبر اللهجة العربية الأندلسية،  إحدى لهجات اللغة العربية المستخدمة في الأندلس. ورغم أنها منقرضة الآن، إلا أنها تستخدم أحيانًا في الطرب الأندلسي. حسب الدكتور محمد بن شريفة، كان لهذه اللهجة تأثيرا كبيرا في اللهجات المستخدمة في شمال غرب المغرب وسلا وغرب الجزائر. وكان لها تأثير آخر على لهجة المستعربين، واللغة الإسبانية، والقطلونية، والبرتغالية.
(2)يرى الدكتور علي بن المنتصر الكتاني في كتاب انبعاث الإسلام في الأندلس أن أمل  الموريسكيين في الخروج بسلام من مملكة بلنسية لم يتحقق، إذ لم يرحمهم عدوهم، فصاحبت عمليات الطرد جرائم وفظائع لاتصور. فقد أمرتهم السلطات بحمل ما استطاعوا من أمتعتهم ، على ظهورهم. ثم تكونت في الطرقات عصابات، تسطوا عليهم وتجردهم مما يحملون من حلي ومال ويقتلون منهم من شاؤوا ، وشارك في النهب والسبي والقتل أفراد الجيش الذين يحرسونهم الذين شاركوا أيضا في عمليات الخطف التي تعرض لها الأطفال الموريسكيون.
(3)قدم الموريسكي في كتاباته أحيانا حججا دينية مقتبسة عن المسيحية. هاجم الخطاب الديني المسيحي. انتقد بعض المواضيع الجدلية (التثليث، شخصيتي مريم العذراء والمسيح، الكنيسة، البابوية، أسرار الكنيسة…) في أغلب الأحيان استنادًا إلى حجج مقتبسة عن المسيحية لا الإسلام. إنه لأمر قد يرد ضمن ما هو إيجابي إذا ما أخدنا بعين الاعتبار قدرة المورسكي على نقد المسيحية بحجج غير غريبة عن المجتمع الكاثوليكي ومن صلب عقيدته؛ للبرهنة للمورسكيين والنصارى على السواء أن الإسلام هو الدين الحق وأن النصرانية دين محرف خاطئ، وردا على سيل المنشورات والكتب الكنسية التي هاجمت بين الأوساط المورسكية الإسلام ومبادئه والقرآن الكريم وشخص النبي محمد.
ولكن يعتقد بعض الباحثين أن الأمر قد يعتبر مأساويا، خاصة إذا ما نظرنا للموضوع من زاوية أخرى، حيث دخل الموريسكي، بالنسبة لهؤلاء، مرحلة فقدان هوية فهو الآن عدو للمسيحية أكثر من كونه مسلما. من المؤكد أن تقديم الكُتاب الموريسكيون الممارسات الإسلامية أحيانا من منظور «المقارنة» مع ديانة أخرى لأمر مخالف لطريقة العرض التقليدية المعتادة، ولكنه طرح يلائم واقع الموريسكي الذي تحمل حصص الوعظ الكنسي والممارسات المسيحية المعارضة لتعاليم الإسلام.
(4)في مقاله “تضامن الجزائر مع مسلمي الأندلس أيام المحنة الكبرى 1492-1640 “يرى الأستاذ. الصادق دهاش أن الجزائر تمكنت في الفترة الممتدة ما بين سنتي 1528 و1584م من شنّ ثلاثة وثلاثين غارة بحرية ناجعة على السواحل الإسبانية، أنقذوا خلالها كثيرا من الأندلسيين.
 (5)في ظل عدم حيازتنا للقصيدة الأصلية التي دُونت بالعربية العامية الأندلسية، نكتفي بترجمتها عن الإسبانية للعربية الفصحى.

 

الأصل العربي لاسم مدينة "ألمرية" الإسبانية الأندلسية

 

الأصل العربي لاسم مدينة "ألمرية" الإسبانية الأندلسية



يُطِلُّ من أعلى تلة بمدينة ألمرية الإسبانية مجمع أثري أندلسي عريق مهيب مُرفع جَسيم جَلِيل. يحمل المجمع اسم قصبة ألمرية ويُعتبر من أهم الحصون العسكرية التي شيَّدَها المسلمون في شبه الجزيرة الإيبيرية ومن أعظم المباني الحربية المصممة للدفاع عن الأراضي الأندلسية في فترة الحكم الإسلامي للأندلس. تُشكل قصبة ألمرية الأندلسية بؤرة وأصل وأساس نشأة المدينة الإسبانية الحالية كما أن تسمية مدينة ألمرية ليست سوى اقتباس للاسم الذي أُطلق على القصبة في فترة الحكم الإسلامي لشبه الجزيرة الإيبيرية.


تم إعلان قصبة ألمرية كنصب تاريخي فني سنة 1931. نظرا لجمالية عمارتها وعراقة مرافقها وأصالة آثارها المحفوظة بشكل جيد، شكَّلَت قصبة ألمرية موقعا معتمَداً لتصوير العديد من الأفلام السينمائية حيث تَبَدَّى المجمع في أفلام مثل “كليوباترا” عام 1963، “إنديانا جونز والحملة الأخيرة” (1989)… بالإضافة إلى ذلك، تَجَلَّت قصبة ألمرية في الموسم السادس (2016) من السلسلة الملحمية الناجحة والحائزة على عدة جوائز “صراع العروش”.


تُعتبَرُ القصبة اليوم السمة الهوياتية المُمَيِّزَة لساكنة مدينة ألمرية، وهي مدينة إسبانية أندلسية وعاصمة مقاطعة ألمرية، تقع في جنوب شرق إسبانيا على البحر المتوسط. تلعب القصبة اليوم دور النقطة المرجعية الرئيسية للساكنة والزوار، إذ تلعبُ دور البوصلة المركزية التي تهديهم إلى الطرقات والشوارع والممرات. تُحيط بالمجمع جدران مُسننة، يُمكن من خلالها تأمل مناظر طبيعية خلابة مُطِلَّة على المدينة والساحل. يتم ولوج المجمع عبر مدخل على شكل حدوة حصان يخبرنا عن الأصول الأموية للتحصين.



أصل تسمية ألمرية العربي الأندلسي


اقتبست مدينة ألمرية تسميتها الحالية من الاسم الذي أطلقه مسلمي الأندلس قديما على القلعة ألا وهو “المَرِيَّة” بالفتح ثم الكسر، وتشديد الياء بنقطتين من تحتها. هذه الكلمة العربية “المَرِيَّة” مشتقة من الجذر “رأى، يَرَى، رُؤيةً” والمفعول “مَرئِيّ”. وبالتالي كلمة “المَرِيَّة” تعطي فكرة ”الرؤية” وتزودنا بمفاهيم لأفعال مرادفة مثل: “نظر، أبصر، اطلع، تبين”. تُضيف اللغة العربية حرف الميم لجذر الكلمة لتمنحنا أسماء دالة على المكان أو الوقت أو الوفرة. وهكذا منحنا حرف الميم الذي أُضيف لكلمة “المَرِيَّة” معنى المكان الذي يمكن الرؤية من خلاله أي برج المراقبة. يُستخدم حرف الميم لتكوين كلمات دالة على المكان، المحل، المنزل أو المقام. فمكان الحلول هو المحل، مكان النزول هو المنزل، مكان الإقامة هو المقام، مكان الشفاء هو المشفى، مكان الطيران هو المطار، مكان السلخ هو المسلخ، مكان السجود هو المسجد… وهكذا شكلت كلمة “المَرِيَّة” مكان الرؤية أو برج المراقبة. تجدر الإشارة إلى أننا لسنا أمام كلمة بالعربية الفصحى وإنما أمام لهجة أندلسية متداولة ابتكرت كلمة “المَرِيَّة” لتعني المكان الذي كانت تتم من خلاله عمليات المراقبة والتربص بأي عدو محتمل، والذي كان لابد أن يتمركز بمقام عالي، وبالنسبة لقصبة ألمرية أو “المَرِيَّة” فقد تموقعت في أعلى قمة بالمدينة.


يعود سبب تسمية المدينة بـ”المَرِيَّة” إلى كونها في الأصل برج مراقبة بجبل مُطِلّ على الشاطئ للدفاع عن مدينة “بيتشينا” أو “بَجَّانة” الواقعة في الداخل، ولهذا السبب كان يطلق عليها اسم “مَرِيَّة بَجَّانة”. وهو ماذكره الرحالة والكاتب محمد بن عبد المنعم الحميري من أهل سبتة (ت. 900 هـ / 1495 م) في كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار: “وبين بجانة والمرية خمسة أميال أو ستة أميال، وكانت بجانة في القديم هي المدينة المشهورة قبل المرية فانتقل أهلها إلى المرية فعمرت وخربت بجانة، ولم يبق منها الآن إلا آثار بنيانها ومسجد جامعها قائم بذاته…”(ص 80).


تشكلَّت، مع مرور الوقت، قرية صغيرة عند الجبل حول برج المراقبة حيث تم تشييد قلعة ألمرية سنة 955م في زمن الخليفة عبد الرحمن الثالث، أبو المُطرّف عبد الرحمن الناصر لدين الله ( 11 يناير 891م – 15 أكتوبر 961م) ثامن حكام الدولة الأموية في الأندلس. نمت المدينة وتوسعت وازدهرت عند السفح. حظيت بمركز عال من التفوق البحري. عُزِّزَت بأسطول من السفن. وأضحت ذات نشاط صناعي وانتعاش تجاري وتطوُّر ملاحي لِتُصبِح بذلك أهم موانئ الأندلس في القرن الرابع الهجري.


هناك تفسير آخر يعزو تسمية ألمرية إلى كلمة “المرآة” إذ يُقال أنها سميت كذلك لانعكاس ضوء المدينة الأندلسية على مياه البحر المتوسط، أو لكونها مرآة للبحر. هذا التفسير يبدو جميلا ورومانسيا ولكنه غير صحيح.



نبذة عن الأصل الأندلسي لمدينة ألمرية


لَعِبَت قلعة ألمرية أو المَرِيَّة دور الرقيب البحري المُترصد للعدو والمنارة المتربصة للسفن الدخيلة والحارِس المُراقب للخصم المحتمل والخَفِير المُلاحظ لكل هجوم بحري مهدِّد لاستقرار مدينة بَجَّانَة بشكل خاص والأندلس بشكل عام. وذلك لموقعها الاستراتيجي المتمركز بالساحل الإسباني لبحر البوران الذي سمي قديما بحر غرناطة، وهو الجزء الأقصى غرباً من البحر المتوسط، ويقع بين إسبانيا في الشمال والمغرب والجزائر في الجنوب.


أمر الخليفة عبد الرحمن الثالث ببناء هذا المبنى الدفاعي والحصن الإسلامي في القرن العاشر، سنة 955م. وذلك لحماية مدينة بجَّانة من التهديد الخارجي. بلغت مدينة بجَّانة ذروتها في الفترة الممتدة بين القرن التاسع ومنتصف القرن العاشر. و تعتبر بَجَّانَة اليوم (بالإسبانية:Pechina) بلدية تقع في مقاطعة ألمرية (المَرِيَّة) جنوب شرق إسبانيا، ويبلغ عدد سكانها حاليا حوالي 3.307 نسمة. من مواليد مدينة بيتشينا أو بَجَّانَة الأندلسية أمير البحر خشخاش بن سعيد بن أسود الذي يُعتقد أنه أول من قطع المحيط الأطلسي ومكتشف أمريكا الحقيقي.


يُعتبر بناء القصبة الحلقة النواة التي تأسست على إثرها مدينة ألمرية. يتوافق تاريخ نشأة مدينة ألمرية مع تاريخ تشييد قصبتها، عام 955م. يعود التأسيس الرسمي للمدينة للعام الذي أمر فيه الخليفة عبد الرحمن الثالث ببدء الأعمال في القصبة. كانت هذه الأخيرة في بادىء الأمر مجرد مبنى عسكري منعزل. ثم نشأت على سفح هذه القاعدة الدفاعية البارزة مدينة حمَلَت نفس اسم القصبة، ألمرية. أصبحت في وقت قصير أهم ميناء في الأندلس. وغدت الشريان الرئيسي الذي يَصِلُ الأندلس بالمشرق وشمال إفريقيا.


بلغت مدينة ألمرية أوج رونقها وذروة تحضرها وقمة تمدُّنها بعد سقوط خلافة قرطبة واستيلاء خيران العامري على المدينة الأندلسية. ترعرع خيران الصقلبي أو خيران العامري، حاكم ألمرية ومرسية في عهد ملوك الطوائف، في قصور بنو أمية. تدرج في المناصب وسعى في الرتب حتى غدا من كبار الفتيان العامريين في زمن الحاجب المظفر بالله سيف الدولة أبو مروان عبد الملك بن محمد بن أبي عامر المعافري ( 938 – 1002 م). أصبح ملكاً على طوائف ألمرية ومرسية بين عامي 1013 و 1028 م.


نتيجة لعدم الاستقرار السياسي والعسكري الذي كانت تعانيه الأندلس في تلك الفترة، عمل خيران العامري على توسيع المحيط الدفاعي لقصبة ألمرية وتمديد سور المدينة من الجبل إلى البحر. ولم يبق منه اليوم سوى الجزء المعروف باسم إيل ثيرو دي سان كريسطوبال El Cerro de San Cristóbal.



أساطير متوارثة عن قصبة ألمرية

تحوم حول قصبة ألمرية عدة أساطير. تندرج مواضيع هذه الأساطير بشكل عام في ثلاثة فروع: النزاع بين المسيحيين والمسلمين، الكنوز الأندلسية الإسلامية المطمورة بالقصبة، قصص حب بين سجناء مسيحيين وبنات السلاطين. كما ترتبط القصبة بأسطورة شهيرة تُفسر سبب نشأتها. يُحكى أن الخليفة عبد الرحمن الثالث رأى في منامه طفلة مفقودة في الغابة طاردتها زوجة أبيها بالحجارة. فاتخذ عبد الرحمن الثالث هذا الحلم كإشارة على أن شيئًا سيئًا سيحدث وأنه كان عليه الدفاع عن المنطقة من خلال إحاطتها بالجدران وبناء قلعة.


محظوظون نحن إذ تُحيط بنا الأساطير من كل جانب! نعرف جيدا أن الأساطير ليست سوى خرافات ومع ذلك نتمسك بها، في حكايا الأطفال، في التراث، في الإنتاجات الأدبية والفنية… لعلنا نبحث في هذا التشبت عن حماية من تعب المادية المطلقة للعلم. لعلنا نبحث عن توازن في المشاعر باستحضار الخيال الذي يبقينا أحياء. اختفاء الأساطير هو اندثار جزء هام من ثقافتنا ومن أرواحنا. اختفاء الأساطير اغتراب عن هويتنا. هو بتر لعنصر هام من عناصر استشعار لذة العيش. لابد من استراحة على أعتاب الأساطير لضمان فسحة لذيذة في الخرافات (طالما لم تمس العلم) بعيدا عن دقة المنطق المُتعبة.



آخر حصون الأندلسيين.. لغة «الألخميادو» السرية

 



آخر حصون الأندلسيين.. لغة «الألخميادو» السرية


سقطت غرناطة سنة 1492، فطُويت بسقوطها آخر صفحة من تاريخ الحكم الإسلامي في الأندلس. بالرغم من توقيع المسلمين على معاهدة تضمن لهم حرية الممارسات الدينية والحفاظ على الهوية الإسلامية والتقاليد الأندلسية وعلى ممتلكاتهم، وأموالهم، ولغتهم، وزيهم، وشعائرهم، وغيرها من البنود التي تضمن للمسلم عيشًا كريمًا في ظل الحكم الكاثوليكي؛ إلا أنه سرعان ما نُقضت.

مارست السلطات الكاثوليكية ومحاكم التفتيش ضغطًا على المسلمين للتخلي عن الإسلام، واعتناق المسيحية، والتحدث بالقشتالية بدل العربية وغيرها من الانتهاكات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية الأندلسية؛ فَخُير المسلم سنة 1501 بين التحول للمسيحية أو الطرد والنفي خارج أرض الوطن.

وفي ظل هذا القرار قرر هؤلاء «المسيحيون الجدد» ممارسة الإسلام خفية، ونصرة البقية الباقية من تراثهم، وثقافتهم، وهويتهم باللجوء لاستعمال لغة «الألخميادو» السرية (أو عجمية الأندلس)؛ فدوَّنوا بها كل ما يتعلق بالإسلام. وتجدر الإشارة إلى أن هذه اللغة لم تظهر بعد إصدار قرار التنصير، وإنما ظهرت بوادرها الأولى قبل تلك الفترة.

كيف نشأت الألخميادو؟

نشأت لغة الألخميادو، حسب الدكتور علي الكتاني، في القرن الرابع عشر بين مدجني مملكتي أراغون وقشتالة، واندثرت في القرن الثامن عشر، فكان عمرها حوالي 400 سنة تقريبًا.

مخطوط بلغة الألخميادو السرية عُثر عليه سنة 1988 داخل جدار منزل في بلدية نوفاياس (بالإسبانية: Novallas) وهي بلدية تقع في مقاطعة سرقسطة التابعة لمنطقة أراغون شمال شرق إسبانيا

تعتبر لغة الألخميادو، في مفهومها الضيق، لغة رومانية قشتالية كُتبت بأحرف عربية. وبالتالي فالأدب الذي دُوِّن على هذا النحو يسمى بأدب الألخميادو.أما في مدلولها الأوسع فهي مجموع اللغات الرومانية، من بينها الإسبانية والمستعربية أو المستعربة، المرسومة بخط عربي.

إن تدوين هذه اللغة بحروف عربية يعكس رغبة هؤلاء الكتاب في التعبير عن الانتماء لعقيدة الإسلام الجماعية. لقد أدرك المورسكيون (المسلمون الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الأندلس وخُيروا بين اعتناق المسيحية أو الطرد) أن الذي يفقد لغته العربية يفقد أيضا دينه. لذلك استعملت اللغة الألخميادية المورسكية أبجدية القرآن تعبيرًا عن الارتباط الثقافي والروحي بالأمة الإسلامية.

نظام كتابة الألخميادو، تعتمد لغة الألخميادو نسخ اللغة الرومانية القشتالية بأحرف عربية وذلك بمبادلة كل حرف روماني قشتالي بحرف عربي يُعتَبَرُ الأقرب إليه من الناحية الصوتية في محاولة للتوسط بين المنطوق والمكتوب.

لا زال هذا الأدب محفوظا في مكتبات إسبانيا، ومعدودا من النوادر. نشأ اهتمام كبير بدراسة وتحليل وفك رموز وثائق ومخطوطات أدب الألخميادو في نهاية القرن التاسع عشر من طرف بعض رواد هذا المجال مثل باسكوال غيانغوس، وإدواردو سابيدرا. وفي مطلع القرن العشرين برزت أسماء أخرى مثل: خوليان ريبيرا ومغيل اسين بلاثيوس. حظيت الدراسات الألخميادية في الحقبة الأخيرة باهتمام أكبر من طرف مختصين مثل آربي، مرسيدس غارسيا أرينال، مانويلا مانثناريس دي ثيرِّي وبشكل خاص من طرف اللغوي والمستعرب الإسباني آلبارو غالميس دي فوينتيس (1).

نعتقد أن هؤلاء الكتاب الذين ابتكروا هذه الكتابات ذات الطابع المختلط والتراجيدي والمُرَكَّب يستحقون أن يحظوا بمكانة مميزة ضمن ما يسمى بأدب العصر الذهبي الإسباني، الذي وبكل تأكيد، ينتمون له. إننا أمام كتابات تعكس أهمية تاريخية بالغة. وتتجلى هذه الأهمية في توثيقها لألم ومعاناة شعب قاوم طمس الهوية والاندثار، وبذل جهدا جبارا لإيقاف مصير تاريخي حتمي (2).

أصل كلمة ألخميادو

يُطلق على الأدب المورسكي الذي دَوّن اللفظ الروماني بحرف عربي اسم «ألخميا» أو «ألخميادو»، والكلمة من أصل عربي وتحيل على لفظ «أعجمية» أو «عجمية» أو «أعجمي» والجمع «عجم» و«أعاجم». ويطلق لفظ «أعجمية»
في اللغة العربية على كل لغة غير عربية. ويكثر استعمال مصطلح «أعجمي» مرادفًا لـ«أجنبي» في إحالة على الشخص غير العربي أو الشيء المَنْسُوبِ إِلَى الْعَجَمِ أو مَنْ يَنْتَمِي إِلَى بِلاَدِ الْعَجَمِ. ويسمَّى أعجمي أيضًا مَنْ لا ينطق بالكلام الفصيح ولو كان عربيًّا. ويُقال لسانٌ أَعجميٌّ أي غير عربيّ، كتاب أَعجمي: كتاب غيرُ مبين، لفظ أعجميّ: لفظ دخيل أو غير فصيح. ويُقال رَجُلٌ أَعْجَمُ أي رَجُل لا يُحْسِنُ النُّطْقَ بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وَلا يُفْصِحُ، ولايُبَيِّنُ كَلامَهُ وَإنْ كانَ عَرَبِيًّا (3).

وبالتالي تبنى المسلمون لفظ أعجمي (أجنبي) أو أعجمية (لغة غير عربية) في لفظ «ألخميا» أو «ألخميادو» للدلالة على اللغة الرومانسية أو الرومانية القشتالية التي شكَّلَت لغة المُحتَل الأجنبي. يتعلق الأمر بمزيج فريد من اللغتين العربية واللاتينية العامية (الرومانسية). ونتحدث عن نص ألخميادو إذا ما كتبت الصوتيات اللاتينية بالأبجدية العربية، ليكون الألخميادو إذن لغة رومانسية منحدرة من اللاتينية انفردت بطريقة كتابتها بحروف عربية؛ ولفظا استعمل عموما في إسبانيا لتعيين التكافل الذي كونته كل من العربية واللغات الرومانسية، التي كانت شائعة في شبه الجزيرة الإيبيرية.

ظروف نشأة أدب الألخميادو

ظهرت أولى بوادر أدب الألخميادو، حسب المستعرب والمترجم الإسباني مغيل دي إيبالثا (1938 – 2008)، في قشتالة القديمة بعد بضع سنوات من فتح القسطنطينية (1453)، وبالضبط حوالي سنة 1460 يربط إيبالثا ظهور الألخميادو بظاهرة تدوين بعض كتاب شعوب أوروبا المسلمة إنتاجاتهم الأدبية بلغتهم الأم، مستخدمين في ذلك، الأبجدية العربية. كما يربط ظهور أدب الألخميادو كأدب مُفَسِّر للإسلام بظاهرة أخرى ألا وهي ظاهرة هجرة فقهاء وعلماء أندلس القرن الثالث عشر، الشيء الذي ولَّدَ رغبة واهتماما بتخليد الخطاب الديني في نصوص تمزج اللاتينية بالعربية.

يرى بيرنابي أن أدب الألخميادو يتميز عن غيره من اللغات الرومانية بنظام الكتابة الفريد، الذي يهدف إلى الحفاظ على التراث الإسلامي. شكلت اللغة العربية بالنسبة للمورسكيين رمزا دينيا قرآنيا مقدسا، ومرجعا أساسيا، لمقاومة سياسة التثقيف القسري، وعنصرا رئيسا لإثبات انتمائهم للمجتمع الأندلسي بشكل خاص، وللمجتمع الإسلامي بشكل عام. لذلك أدرك المورسكي جيدا أن كل ابتعاد عن اللغة العربية هو بمثابة ابتعاد عن الإسلام، وهكذا، ومن هذا المنطلق، نشأت ضرورة استعمال الأبجدية العربية.

أما باتريك آربي فيعرض مبادرة يوحنا الشقوبي «خوان دي سيغوبيا» (1393-1458) كسبب آخر وراء ظهور ونشأة أدب الألخميادو. كان يوحنا الشقوبي لاهوتيا إسبانيًّا، من أهل أشقوبيه وقسًا في طليطلة. بعد تركه الحياة العامة واعتزاله في أحد الأديرة، قضى الكثير من وقته باحثا عن كيفية تحقيق تفاهم خطابي بين الثقافتين: الإسلام والمسيحية. وَكَّل مهمة ترجمة القرآن للفقيه الأندلسي المسلم عيسى بن جابر الشقوبي، لكن الترجمة ضاعت. وهكذا ساهم يوحنا الشقوبي، حسب باتريك آربي، بشكل هام في ربط اللغتين الرومانية القشتالية والعربية. تطلع من خلال هذه الترجمة ومن خلال كتاباته إلى تحقيق تفاهم خطابي بين الفكرين الإسلامي والمسيحي. اهتم بدراسة القرآن، وبالتعرف على الطقوس والتقاليد الإسلامية بهدف البحث عن أنجع وسيلة لتحويل المدجنين للمسيحية. إلا أن هذا الربط بين اللغتين، بالنسبة لباتريك آربي، كان سببا وراء ظهور هذا الأدب. فبالنسبة لهذا الباحث، إن تلك الشخصية التي ربطت بين الثقافتين واللغتين بحثا عن إيجاد أنسب وسيلة لتحويل المدجنين للمسيحية ساهمت للمفارقة وبشكل متناقض في ظهور أدب الألخميادو(4).

ومن جهته، يرى خيسوس ثانيون أن أدب الألخميادو شكل مادة تعليمية وتربوية، جاءت تلبية لحاجة المورسكيين، خاصة الأراغونيين منهم، لتعلم اللغة العربية.

رواد أدب الألخميادو

بدأ هذا التقليد مع القشتالي عيسى بن جابر الشقوبي، مفتي وفقيه جامع شقوبية وكنيته أبو الحسن. انتشرت كتاباته لاحقا عبر فتى أريبالو (كاتب قشتالي موريسكي من القرن السادس عشر). ساهم الشقوبي في النهوض بالترجمة وتطوير الفقه في إسبانيا والفن المدجن. هو أول من ترجم القرآن للقشتالية بطلب من الكاردينال يوحنا الشقوبي. ويعود تاريخ هذه الترجمة لما بين ديسمبر 1455 ومارس 1456. يرى آربي أن عيسى بن جابر سيكون، على الأرجح، أول مبتكر لنظام تدوين النصوص الإسلامية بلغة الألخميادو. ودُون رفض هذه الفرضية، يرى إيبالثا أن عيسى بن جابر لعب دورا هاما في تقبُّل المدجنين لهذا الأدب، وذلك لكونه أول من ترجم نصا مقدسا (القرآن الكريم) للغة عامية (الرومانية القشتالية)، خاصة أن ظاهرة الكتابة بلغة الألخميادو تبدت مباشرة بعد هذه الترجمة. ومن جهة ثانية، ساهم عيسى بن جابر في تطوير الفقه من خلال تأليف أول عمل فقهي مدون بلغة الألخميادو سنة 1462 «المختصر في السنة». ويؤكد إيبالثا عدم وجود أي نص قبل هذه السنة. استهدَفَ المؤلَّف بالدرجة الأولى الساكنة المدجنة التي ظلَّت عن علم شيوخها وعلمائها. ويتطرق العمل لمعالجة قضايا متنوعة من فقه العبادات مثل: الطهارة، والصلاة، والحج.

ويحتل فتى أريبالو مركزا مرموقا في الكتابة الألخميادية. وهو مورسكي من آبلة يتمتع بإبداع أدبي كبير. أُجبِرَ على اعتناق المسيحية. يعتبر ثاني أكبر مؤسس لأدب الألخميادو. ينحدر من أريبالو (بلدية تقع حاليا في مقاطعة آبلة التابعة لمنطقة قشتالة وليون وسط إسبانيا). يرى إيبالثا أنه مؤلِّف فريد في مجال أدب الألخميادو الموريسكي. تعكس كتاباته إحاطة عميقة باللغة الرومانية وغنى خاصا على مستوى المضمون والمعجم وقدرة إبداعية هائلة وثقلا لغويا. عزا إيبالثا هذا التمكن اللغوي وهذا الغنى الفكري لتواصله الدائم بالتيارات الدينية للمجتمع الإسلامي الغرناطي. سافر بكثرة لغرناطَةَ ما بعد الاحتلال الكاثوليكي في بداية القرن السادس عشر. نقل الألخميادو من قشتالة إلى أراغون، مما أدى إلى اكتساب هذه اللغة للعديد من الألفاظ الأراغونية الدخيلة. لعبت هذه الشخصية دورا هاما في تطوير أدب الألخميادو. اقتبس محمد رمضان من كتابات أريبالو شعرا نُقِلَ بعد ذلك مع موريسكيي أراغون اللاجئين بتستور إلى تونس. ويعتبر محمد رمضان أكبر شاعر موريسكي من آراغون وواحدا من أهم الشعراء المورسكيين على الإطلاق. انتهى به المطاف إلى الرحيل بعيدا عن وطنه والنفي بتونس. وبذلك نلاحظ كيف مرت هذه اللغة من مرحلة التقبل الأولى والانتشار في قشتالة ما بين سنتي 1462 و1501 مع أول ترجمة للقرآن من العربية للقشتالية على يد عيسى بن جابر، ثم مرحلة انتقالها إلى آراغون على يد فتى أريبالو، وأخيرا مرحلة انتقالها إلى تونس(5).

مخطوط ألخميادو يعود لفتى أريبالو

إنه لمن المهم التمييز، منذ البداية، بين الأعمال المؤلَّفة في شبه الجزيرة الإيبيرية قبل طرد الموريسكيين من طرف فيليب الثالث سنة 1609 وأعمال أخرى، تم تأليفها بعد هذا التاريخ، خاصة من طرف الجماعات المورسكية التي انتقلت إلى تونس. يبرز ضمن المجموعة الأولى عدة كتاب وشعراء نذكر من بينهم مؤلِّف قصيدة «يوسف». أورد المرحوم الدكتور الشهيد الكتاني في كتاب انبعاث الإسلام في الأندلس بعض أبيات القصيدة والتي تُنسَبُ لشاعر مجهول من آراغون القديمة عاش في القرن الرابع عشر ميلادي. وجاء في افتتاحيتها:

الحمد لله العلي الحق

العزيز الكامل الملك العادل

رب العالمين الواحد الأحد الصمد

الكريم القوي القيوم

هو الأكبر، تعم قوته كل شيء

ولا تخفى عليه خافية في الكون

لا في البر ولا في البحر

لا في الأرض السوداء ولا البيضاء

اعلموا واسمعوا يا أحبائي

ما حدث في الأيام الغابرة

ليعقوب ويوسف وإخوته العشرة

مخطوط من أدب الألخميادو، قصيدة يوسف

تبرز ضمن أعمال المجموعة الثانية، أي الإنتاجات التي ذاع صيتها بعد إصدار قرار طرد المورسكيين من شبه الجزيرة الإيبيرية، المؤلفات الشعرية لمورسكي آراغوني من رويدا دي خالون (بلدية تقع اليوم في مقاطعة سرقسطة التابعة لمنطقة أراغون شمال شرق إسبانيا) واسمه محمد رمضان. تتطرق قصائده الشعرية بشكل عام، لحياة النبي محمد. وفي نفس الحقبة (مطلع القرن القرن السابع عشر) وفي أبيات شعرية أيضا، نظم مورسكي آخر معروف باسم «ألهيتشانتي» من منطقة مونثون التي عرفها المسلمون باسم مُنتشون (في أراغون) شعرا يبرز علاقة المورسكي بالحج تحت عنوان «قصائد الحاج بوي مونثون». مما يوضح أن كثيرا من الموريسكيين سافروا ثم رجعوا إلى بلادهم، ومنهم من حج بيت الله الحرام ورجع (6). كما عُثر على قصيدة مناهضة للمسيحية منظومة سنة 1627 م من طرف مورسكي من ألكالا دي إيناريس (مدينة إسبانية تقع في منطقة مدريد وتعني قلعة على نهر إيناريس). هاجر لتونس ويدعى خوان بيريز أما اسمه الحقيقي فهو إبراهيم الطيبلي. كاتب كبير ومن أهم الموزعين للكتابات التي حررها غيره من المؤلفين. ظهرت في نفس الفترة بعض أعمال الألخميادو التي تدافع عن الإسلام كتلك التي ألفت سنة 1615 من طرف عبد الكريم بن علي بيريز وروايات نثرية تروي السيرة النبوية وحياة الصحابة.

وينقل لنا الدكتور الكتاني في كتاب «انبعاث الإسلام في الأندلس» أبياتا حزينة لشعراء بكوا على ما آل إليه وطنهم من تدمير، ومثال ذلك هذه الأبيات المترجمة من أدب الألخميادو لشاعر مجهول يبكي فيها بلدته الحامة (القريبة من غرناطة) عند سقوطها في يد النصارى:

آه على بلدي الحامة،

الرجال والنساء والأطفال

كلهم يبكون هذه الخسارة العظمى

كما بكت كل سيدات

غرناطة

آه على بلدي الحامة،

لا ترى من نوافذ بيوتها في أزقتها

إلا مأتما كبيرا

ويبكي الملك ما عساه يبكي

لأن ما ضاع كثير

آه على بلدي الحامة

وعبَّر شاعر الألخميادو الكبير علي بيريز، عن القهر الذي عاشه الشعب الأندلسي في قصائد وأبيات نذكر من بينها:

أنا لا أبكي على ما مضى

لأن لا يمكن الرجوع إلى الماضي

ولكن أبكي لما سنرى

من نتانة ومرارة

كل من يفهم

ومن مقتطفات النثر الأعجمي نأتي على ذكر ما قاله الفقيه علي بن محمد شكار الذي يفتتح كتابه بما يلي:

«بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد الكريم وعلى آله وسلم تسليما، إن الدعوات التي يدعى بها في الشهور العربية هي التالية: الشهر الأول يسمى محرم، وأول يوم منه هو يوم مهم جدا، وهو من الأيام السبعة عشرة من أيام النبي محمد (ص)…».

طور كتاب الألخميادو أدب القصة باعتبارهل وسيلة بيداغوجية لتدريب الناشئة المسلمة سرا على المبادئ والأخلاق الإسلامية، ومن أهم هذه القصص التي نجت من الضياع: «قصة العصر الذهبي» و«قصة علي والأربعون جارية» و«قصة الإسكندر ذي القرنين». ومن أمثلة الكتب التي كتبت بالأعجمية في العلوم التقنية كتاب إبراهيم المرباش المسمى «العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع»، وهو في التقنية العسكرية (7).

كما عُثر أيضا على رسائل خاصة دُوِّنت بالألخميادو ولعل أبرزها تلك التي كتبت مباشرة بعد احتلال غرناطة سنة 1492 من طرف الملكان الكاثوليكيان والتي نشرت تحت عنوان «رسالة أعجمية غرناطية» في مجلة أرابيكا سنة 1954. ويوجد في شعر الألخميادو كثير من الشعراء المجيدين الآخرين مثل إبراهيم دي بلغاد، محمد الخرطوش البياني، وغيرهم. وظل كتاب آخرون مجهولي الاسم بسبب الخطر الذي تتعرض إليه حياتهم على يد محاكم التفتيش.

مراحل تطور أدب الألخميادو

يمنحنا إيبالثا تقسيما دقيقا ومفصلا لمختلف مراحل تطور أدب الألخميادو. يتعلق الأمر بعملية إبداع لغوي رسخت جذورها في الحقبة المدجنة:

مرحلة التأسيس القشتالية (1455-1462): حسب إيبالثا بدأت المرحلة في قشتالة القديمة مع عيسى بن جابر، أول من ترجم القرآن الكريم للقشتالية.

المرحلة القشتالية (1462-1501) : يطلق إيبالثا على هذه المرحلة اسم «القشتالية» نظرا لعدم وجود أي نص ألخميادو في هذه الفترة في شبه الجزيرة الإيبيرية خارج قشتالة. ويعتبر فتى أريبالو الكاتب الوحيد والخاص والمميز لهذه المرحلة.

المرحلة الأراغونية (1501-1525) : مع منع هذا النشاط في قشتالة نُقِلَ إلى أراغون، حيث تقبل أهل أراغون هذه النوعية من النصوص الإسلامية التي اكتست طابعا لغويا أراغونيا خاصا على نحو متزايد.

مرحلة التنصير القسري (1526-1609\1614): تمتد هذه المرحلة من سنة 1526, تاريخ التنصير القسري لأهل أراغون إلى غاية الطرد النهائي (1609-1614). تميزت بصعوبة الحفاظ على مخطوطات الألخميادو السابقة مع تسجيل تراجع على مستوى النشاط الثقافي الموريسكي بشكل عام.

مرحلة النفي: بعد هجرة كُتاب وشعراء أدب الألخميادو إلى شمال أفريقيا، لم يعد لهذا الأدب أي سبب للتواجد والاستمرار في شبه الجزيرة الإيبيرية. انصهرت النخبة الموريسكية المفكرة وكوَّنت وحدة ثقافية ضمن مجتمعات الشعوب المُستَقبِلَة. اتسمت إنتاجات هذه المرحلة، حسب إيبالثا، بإثارة بعض القضايا الجدلية كالتطرق لطبيعة الخالق عز وجل وطبيعة المسيح من باب المقارنة بين الديانتين الإسلام والمسيحية وتوضيح رفضهم لشعائر هذه الأخيرة(8).

أبواب ومواضيع أدب الألخميادو

تتناول معظم وثائق الألخميادو مواضيع دينية أو قانونية (فقه)، ولكن هناك أيضا مؤلفات شعرية عامة ذات طابع مثالي موجب للعبرة، وأعمال نثرية تستمد عمقها من الخيال. إن تقسيم أعمال الألخميادو يعكس تنوعا وغنى على مستوى المواضيع. يمنحنا بيرنابي، معتمدا المعيار الموضوعي والأسلوبي الخلاصة التالية:

نصوص دينية: علوم قرآنية، قرآن، تفسير، تلاوات قرآنية، علم الحديث، قواعد اللغة، خطب، نصوص فقهية ( نصوص فقهية عقائدية- صيغ توثيقية- صيغ عقود- قضايا ثابتة)، أدب تعبدي، معايير الزهد والأخلاق، ابتهالات، نبوءات، سير ذاتية وأسفار، حكايا أخلاقية، قصص أخروية، شعر ديني…

نصوص غير دينية: نصوص لا تتطرق للمواضيع الدينية. وتشمل الكتابات المُعتقدة بالخرافة، والوصفات الطبية والصحية، وغيرها(9).

تمكن من الألخميادو أم فقدان مأساوي لقواعد اللغة العربية؟

مخطوط ألخميادو من أراغون لكاتب مجهول، جزء من النص مكتوب باللغة العربية والجزء الآخر بلغة الألخميادو

يتميز أدب الألخميادو ببساطة الأسلوب والابتعاد عن التكلف ويغلب عليه أحيانا طابع الركاكة في التعبير وإن كانت هناك مخطوطات على قدر كبير من البلاغة. تكمن أهمية هذه الإنتاجات الأدبية، أولا وقبل كل شيء، في مزاياها الإنسانية وقيمتها التاريخية والثقافية. تشكل شهادة مأساوية تراجيدية مؤثرة لشعب قاوم الانسلاخ الهوياتي وإن غدت إمكانياته اللغوية والمعرفية خجولة ومحدودة على نحو متزايد بسبب التثقيف الكاثوليكي القسري.

عند تأمل الكلمات الدينية التقنية التي وردت في نصوص الألخميادو باللغة العربية والجمل العربية القليلة التي تتصدر أو تُنهي، في كل الحالات تقريبا، هذه الوثائق؛ نلاحظ دون أدنى دهشة أن اللغة العربية الفصحى قد سقطت في مستنقع من الأخطاء. كثيرا ما تُنسخ باتباع القواعد الصوتية الخاصة بتدوين الألخميادو. إنه لمن المؤلم فعلا النظر إلى المستوى الرديء الذي انحدرت إليه اللغة العربية الفصحى الخاصة بهؤلاء المورسكيين، خاصة عندما نتذكر أنهم أحفاد وورثة أسماء لامعة مثل ابن زيدون وابن عبد ربه.

ومن بين هذه الأخطاء التي لا تحترم القواعد الصوتية الخاصة باللغة العربية، نذكر على سبيل المثال الخطأ الوارد في مخطوط مكتبة مدريد الملكية رقم 36 32. حيث كُتِبت بعض الألفاظ بشكل خاطئ لا يحترم القواعد الصوتية الخاصة باللغة العربية.

كما يحمل المخطوط رقم (XLVIII) من مكتبة مركز الدراسات العربية في مدريد، أهمية لغوية خاصة وذلك لكشفه، سواء بالعربية أو الألخميادو، عن نسخ وتقليد صوتي للخطاب والنطق الأندلسي. مثال: نطق لفظ حلال «حلار» باستبدال اللام راء وفقا لطريقة النطق الأندلسية.

أخد هذا الفقدان التدريجي للغة العربية يتفاقم إلى أن تحول إلى قاعدة. تحولت الأخطاء إلى قاعدة ومنهج يكتب على نحوه العديد من الكتاب. ويبدو أن البعض لم يجهل فقط طريقة الكتابة الصحيحة، وإنما توقف أيضا عن الإلمام بقواعد اللغة العربية اللغوية والنحوية الأساسية. كَتَبَ الموريسكي أحيانا بلغة عربية تقريبا غير موجودة ولغة رومانسية محدودة. بل تفاقم العجز لأكثر من ذلك، فهؤلاء «المؤرخون» المورسكيون لم يصبحوا عاجزين فقط عن التدقيق الإملائي وإنما أيضا عن إدماج بعض المفردات العربية الدينية التقنية بمفهومها الصحيح بعد أن أتلفوا دلالتها الشرعية(10).

إن مفهوم التقية الذي برع الموريسكيون في تطبيقه لدرجة كبيرة، أصبح بالكاد يظهر في نصوص الألخميادو على الرغم من تاريخ المورسكي الحافل بأمثلة اللجوء إليه. يعلق كاردياك على الأمر موضحا أنه عثر على لفظ التقية في نص ألخميادو وقد اكتسب دلالة مختلفة وبعيدة عن المفهوم الديني المركب والمعقد للفظ والذي قام بدراسته في المخطوط رقم (fol.102V) للأكاديمية الملكية للتاريخ (11).

تقلصت اللغة العربية في بعض الحالات إلى مجرد ذكرى شاحبة. فقد الموريسكيون المراجع والإحالات اللغوية المعقدة والغنية بالمعاني والرموز الدينية والصوفية الإسلامية السابقة، لتُترجم كألفاظ قشتالية. أصبح الكاتب المورسكي يقوم بمجهود مثير للشفقة عند تعريف الشخصيات المرموقة كعلماء الدين والصوفيين السابقين؛ إذ كل ما يستطيع فعله الآن هو ذكر الأسماء فقط دون أدنى محتوى فكري حقيقي. مثيرة للأسف الطريقة التي استعرض بها فتى أريبالو وبسط من خلالها، في الوثيقة المحفوظة في المكتبة الوطنية لمدريد تحت رقم res.245، مذهب ابن عربي. لقد كانت الظروف قاسية ولم تكن هناك فرصة للتوقف عند الترف الفكري الخاص بالخطابات الصوفية العميقة والمعقدة. مع احتمال إحاطتهم بالأساس بهذه المعارف، الشيء الذي يعتبر مستبعدا جدا في ظل الأدلة التي تصورها بعض المخطوطات(12).

قدم الموريسكي أحيانا حججا دينية مقتبسة عن المسيحية. هاجم الخطاب الديني المسيحي. انتقد بعض المواضيع الجدلية (التثليث، شخصيتي مريم العذراء والمسيح، الكنيسة، البابوية، أسرار الكنيسة…) في أغلب الأحيان استنادًا إلى حجج مقتبسة عن المسيحية لا الإسلام.

إنه لأمر قد يرد ضمن ما هو إيجابي إذا ما أخدنا بعين الاعتبار قدرة المورسكي على نقد المسيحية بحجج غير غريبة عن المجتمع الكاثوليكي ومن صلب عقيدته؛ للبرهنة للمورسكيين والنصارى على السواء أن الإسلام هو الدين الحق وأن النصرانية دين محرف خاطئ، وردا على سيل المنشورات والكتب الكنسية التي هاجمت بين الأوساط المورسكية الإسلام ومبادئه والقرآن الكريم وشخص النبي محمد.

ولكن يعتقد بعض الباحثين أن الأمر قد يعتبر مأساويا، خاصة إذا ما نظرنا للموضوع من زاوية أخرى، حيث دخل الموريسكي، بالنسبة لهؤلاء، مرحلة فقدان هوية فهو الآن عدو للمسيحية أكثر من كونه مسلما. من المؤكد أن تقديم كُتاب الألخميادو الممارسات الإسلامية أحيانا من منظور «المقارنة» مع ديانة أخرى لأمر مخالف لطريقة العرض التقليدية المعتادة، ولكنه طرح يلائم واقع المورسكي الذي تحمل حصص الوعظ الكنسي والممارسات المسيحية المعارضة لتعاليم الإسلام.

تُحفظ وثائق الألخميادو اليوم في مكتبات إسبانيا باعتبارها تراثا إسلاميًّا فريدا يتيما يجهله الكثيرون. يرمز لمجهود أمة قاومت الانسلاخ الهوياتي وأبت إلا أن تحافظ على دينها. إن كل اهتمام عربي بهذا الأدب سيساعدنا على فهم حلقة شبه مفقودة من تاريخ الممارسات الإسلامية بشكل عام. يعتبر بعض النقاد أن لا علاقة للغة الألخميادو بهوية أولئك الذين يعمرون بيئة جنوب إسبانيا الجغرافية اليوم وأن اللغة ليست سوى ثمرة ماض تاريخي تشكَّلَ بفعل تمازج الأجناس والأعراق؛ بينما يطالب بعض الوطنيين بإقليم أندلوسيا الواقع جنوب إسبانيا باعتبار الألخميادو لغة مُمَيِّزة للشعب الأندلسي المعاصر ومكون سوسيوثقافي مرتبط بماضي الإقليم وحاضره.


سميرة فخرالدين


————————————————–

(1Crónica de la destrucción de un mundo : la literatura aljamiado-morisca, Luce López-Baralt. P.21.

(2) المصدر السابق. ص 23.

(3راجع معنى لفظ أعجمي في قاموس المعاني.

(4The Medieval Spains (1993), Bernard F. Reilly. p. 187.

(5La literatura aljamiada, aproximación general, Karima Bouras. P.60.

(6انبعاث الإسلام في الأندلس. الأستاذ الدكتور علي المنتصر الكتاني.ص 196.

(7) المصدر السابق. ص 219.

(8La literatura aljamiada, aproximación general, Karima Bouras. P.62.

(9) المصدر السابق. ص 63.

(10)Crónica de la destrucción de un mundo : la literatura aljamiado-morisca, Luce López-Baralt. P. 26. 27.

(11) المصدر نفسه، ص 30.

(12) المصدر نفسه، ص 34.