‏إظهار الرسائل ذات التسميات أسرار وأساطير. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات أسرار وأساطير. إظهار كافة الرسائل

أسرار وأساطير من قصر إشبيلية

 

أسرار وأساطير من قصر إشبيلية



لغرناطة كل الدفء الإسلامي، لقرطبة كل الحضارة والجمال، ولإشبيلية كل الرومانسيات والدلال.

هناك عدة أسباب قد تدفعك لزيارة المدينة: الإنغماس في جوهرها الأندلسي، في جو الوادي الكبير الهادئ والرومانسي، معايشة أحداثها ومناسباتها وأعيادها، تذوّق المطبخ الإشبيلي وكشف النقاب عن كنوز المدينة الفنية والتاريخية.

من بين أهم المعالم السياحية التي تجذب الزائر لإشبيلية، قصرها الموحدي. لا يمكن للزائر استنفاذ قائمة تفاصيله وأساطيره وما يخفيه من عجائب وأسرار في زيارة واحدة لذلك فقد تزوره لمرة واثنين وثلاث. القصر عبارة عن مجمع من القصور بُنيت في عصور مختلفة وبأساليب معمارية متعددة والغريب أنها تنسجم ببعضها البعض و تتعايش في وئام تام.

تحيط بالقصر هالة سحرية من الأساطير. إذ نشأت حوله مجموعة من الحكايا العجيبة لتشكل جزءًا من التراث غير المادي الغني للقصر ولإشبيلية بشكل عام. تستمد أساطير قصر إشبيلية جوهرها من وقائع تاريخية قامت الذاكرة الجماعية بتغييرها وتحويلها وتزيينها بشكل يثير المستمع ويثري الثقافة الشعبية الإشبيلية.

يروي كل جناح بالقصر أسطورة أو قصة أو حدث تاريخي مهم يعيد تعريفه من جديد ليحكي للزائر خبايا قد تكون أغنى بكثير من الأشياء التي تُرى بالعين المجردة. تختزن باحة الوصيفات، المكان الأكثر شهرة بالقصر والأكثر تصويراً، أسطورة قديمة مثيرة للفضول. ترجع الأسطورة سبب تسمية الباحة بباحة “الوصيفات” إلى أن حكام إشبيلية المسلمون اعتادوا طلب مائة عذراء نصرانية وكميات كبيرة من النقود من ممالك الشمال النصرانية بشكل دوري منتظم كضريبة سنوية.

يُجهل لحد الآن السبب الحقيقي وراء تسمية الباحة بهذا الإسم. المؤكد أن قصة عذارى الممالك النصرانية ليست سوى أسطورة شعبية من العصور الوسطى والتي تم نشرها لتبرير وللترويج لما سمي بحروب “الإسترداد” لدى الساكنة المسيحية. إننا أمام أسطورة تعليلية: حاول الإسبان عن طريقها، تعليل حروبهم ضد المسلمين. كما يمكن تصنيفها ضمن ما يسمى بالتاريخسطورة، أي تاريخ وخرافة معًا. وقد تصنف أيضا ضمن ما سمي حديثا بالأسطورة السياسية، التي تهتم بصناعة الأيديولوجيات التي تعتمد نشر الوعي الزائف.

10646878_600715876724882_8531825035573647729_n

باحة الوصيفات

 

ومن الأماكن التي غلفت بالأساطير الشعبية ما يسمى ب “حمامات ماريا دي باديلا” . الأمر لا يتعلق حقيقة بحمامات وإنما بصهريج عربي تحت أرضي. يُقال أن بيدرو ملك قشتالة عشق فتاة من النبلاء تسمى “ماريا دي باديلا” فحاول لفت انتباهها وإرضائها بأية طريقة. وعلى الرغم من كل محاولاته في جذب انتباهها إلا أنها تمنعت عنه و لم ترغب به ووصل بها اليأس إلى أن شوهت وجهها بزيت حام للتخلص منه.

قصة الحرق و التمنع ليست سوى أسطورة. كانت “ماريا دي باديلا” عشيقة الملك بيدرو وحبيبته الوحيدة. حيث ترك زوجته “بلانكا دي بوربون” بعد ثلاثة أيام من الزواج فقط ليعود لأحضانها. إذ عادة ما يعود المرء لحبيبته الأولى، لشقرائه.

أنجب منها ولد وثلاثة بنات. مرضت “ماريا دي باديلا” وماتت فبكاها بيدرو بشدة ولفترة طويلة. كانت عشق حياته الوحيد. تمتزج أسطورة “ماريا باديلا” بالصهريج العربي حيث قامت الذاكرة الجماعية بدمج الرموز بالخيال تلبية للرغبات النفسية والإنفعالات الداخلية .

Baños_de_Doña_María_de_Padilla_(2)

حمامات ماريا دي باديلا

 

ولفناء الدمى أيضًا تاريخه الخاص. يعتمد الفناء في زينته بالدرجة الأولى على أعمدة وتيجان أُخِذت جميعها من المدينة الزهراء. تختفي بين نقوشها وجوه بشرية صغيرة جدًا ودقيقة. يبلغ عدد النقوش التي تصور الوجوه البشرية تسعة نقوش. وهي مخفية بعناية ضمن باقي الزخرفات الجبسية. ويقال إذا عثر زائر الفناء على كل الدمى (الوجوه) دون تلقي أي مساعدة إرشادية سينعم بحظ وفير في أيامه المقبلة.

seville_097

نقش لوجه بشري من فناء الدمى

 

يختزن كل مكان بالقصر أساطير، خبايا وقصص. و ينطبق نفس الشيء على حدائق القصر التي تنطوي على أساطير وحكايا من ألف ليلة وليلة.

 

 سميرة فخرالدين

عودة الملك الميت

 


عودة الملك الميت




توفي الملك سيباستيان ملك البرتغال (من 11 يونيو 1557 -4 أغسطس 1578) في معركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة.و هي معركة قامت في 4 أغسطس 1578م. تعود أحداثها إلى تطور الصراع القائم حول السلطة بين محمد المتوكل والسلطان أبو مروان عبد الملك إلى حرب مع البرتغال بقيادة الملك سبستيان الذي عزم فرض هيمنته على جميع الشواطئ المغربية، ومنع الدولة المغربية من إعادة الكرّة على الأندلس بمعاونة العثمانيين. انتهت المعركة بهزيمة الإمبراطورية البرتغالية التي فقدت في هذه المعركة سيادتها وملكها وجيشها والعديد من رجال الدولة. استغل فيليب الثاني ملك إسبانيا الفرصة وقام باحتلال الإمبراطورية البرتغالية سنة 1580.

توفي الملك سيباستيان في ربيعه الرابع والعشرين. ونتيجة لهذه الوفاة ولعدم وجود أي وريث شرعي قد يتسلم سلطة عرش البرتغال من بعده، استولى فيليب الثاني من إسبانيا على عرش البرتغال. قلة هم من رأوا جثة الملك سيباستيان وأقل منهم استطاعوا التعرف على الجثة. لم يتقبل شعب البرتغال وفاة ملكهم سيباستيان. واعتقدوا أن ملكهم سيعود يوما ما لتخليصهم من الإحتلال الإسباني وأنه ينتظر فقط الفرصة المناسبة. هكذا انتشرت أسطورة مفادها أن الملك سيباستيان لا زال على قيد الحياة. وأنه ينتظر فقط الوقت المناسب للعودة للعرش وتحقيق استقلال البرتغال بإقصاء سيطرة الأجنبي فيليب الثاني.

تعود أصول الأسطورة لسنوات طويلة ممتدة إلى ما قبل ولادة الملك سيباستيان. ألَّف الشاعر ثاباطيرو باندارا ما بين 1530و 1546 قصائد غنائية تتنبؤ بظهور الملك الذي سيخلص العالم من المآسي وسيعلي شأن البرتغال على المستوى العالمي. وبذلك فإن أسطورة عودة سيباستيان الذي توفي سنة 1578 تندرج ضمن هذا السياق. ساهمت أفكار ثاباطيرو وأبياته الغنائية في رؤية أهل البرتغال في ملكهم سيباستيان ذلك البطل المرغوب والمُخلِّص. لم يتقبلوا فكرة اختفائه فانتشر اعتقاد شعبي يقضي بعودته يوما ما. بل ظن البعض أنه قد عاد بالفعل وأنه ينتظر على متن سفينة مرساة على نهر تاجه.

هكذا ، ونسبة للملك سيباستيان، نشأ ما يعرف ب السيباستيانيزم وهو عبارة عن عقيدة فكرية أو إيديولوجيا لم تنتشر فقط بالبرتغال وإنما أيضا بشمال شرق البرازيل حيث تم تكييفها حسب المعتقدات والمتطلبات والظروف السياسية والمعيشية السائدة هناك. تُرجم السيباستيانيزم في المجتمع بحالة من السخط وعدم الرضا عن الوضع السياسي القائم وتوقع الخلاص عن طريق حدوث معجزة الإنبعاث أو عودة الحياة لشخص ميت أو تكذيب موته. ليكون السباستيانيزم بذلك حركة فكرية عمت البرتغال في منتصف القرن السادس عشر كنتيجة لوفاة الملك سيباستيان في معركة القصر الكبير سنة 1578.

انتحل عدة مغامرين و محررين شخصية الملك سيباستيان تطلعا للمنفعة الشخصية أو لجلب أكبر عدد من المناصرين . بعضهم واجهوا مصيرهم البائس بالإعدام شنقا كالمغامر الإيطالي ماركو توليو الذي استطاع أن يلف حوله بعض النبلاء البرتغاليين و ماطيوس ألباريس الذي ناصره فلاحون من عدة مناطق بالبرتغال وانتهى به المطاف بالإعدام شنقا بلشبونة. ورغم أن العديد منهم اكتشف أمرهم وتمت معاقبتهم ومحاكمتهم إلا أن ذلك لم يمنع استمرار أسطورة السيباستيانيزم التي عاشت بطريقة أو بأخرى حتى بعد تحقيق استقلال البرتغال.

ومن أهم الأعمال المنساقة في فكر حركة السيباستيانيزم كتاب “رسالة” للشاعر البرتغالي أنطونيو فرناندو نوغيرا دي سيابرا بيسوا (13 يونيو 1888–30 نوفمبر 1935) هو شاعر، وكاتب وناقد أدبي، ومترجم وفيلسوف برتغالي، ويوصف بأنه واحد من أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين، وواحد من أعظم شعراء اللغة البرتغالية، كما أنه كتب وترجم من اللغة الإنجليزية والفرنسية.يتبنى الكتاب موقفا “سيباستيانيا”. وإن جاء بعد مضي قرون على وفاة الملك سيباستيان. والهدف هنا التغني بماضي البرتغال العريق. للإشارة يعتبر “بيسوا” السيباستياني الأخير والأكثر شهرة بين رواد السيباستيانيزم. و لقد خلد الشاعر اسم “دون سيباستيان” بقصيدة في هذا المعنى سماها باسمه. ترجمها للعربية نزار آغري:

الدون سبستيان, ملك البرتغال
مجنون، نعم، مجنون، لأني اشتهيت العظمة
هذه التي لا يمنحها القدر.
لم استطع احتواء يقيني داخلي
ولهذا، وحيث يقوم الشاطئ الرملي،
فإن وجودي هو ما بقي وليس ما هو قائم?.
جنوني، دع الآخرين يتقبلوه مني
وكل ما يحتويه
فمن دون جنون ما هو الإنسان
ان لم يكن مجرد حيوان جيد الصحة
وجثة مؤجلة تتوالد باستمرار؟

حُمِلت معتقدات السيباستيانيزم مع مهاجري البرتغال إلى شمال شرق البرازيل. ولقمع السيباستيانيزم البرازيلي الذي رأى فيه خلاصا من العبودية والجوع والفقر، نُظِّمت حملات عسكرية أهدرت أرواح عدد هائل من ساكنة منطقة سارطاو البرازيلية في مجازر بشعة. أسطورة (الملك سيعود في صباح ضبابي) لا زالت شائعة إلى يومنا هذا كإرث ثقافي لغوي . حيث تستعمل الجملة للتعبير عن حالة مزاجية قد يصعب ترجمتها إلا باللجوء لاستعمال هذه العبارة. وتعني أن الأشياء التي نطمح إليها ونتمنى حدوثها وبشدة لا بد لها إلا أن تتحقق على أرض الواقع وأن تحدث عاجلا أم آجلا.

سميرة فخرالدين

أسرار خفية من قصر الجعفرية

 

أسرار خفية من قصر الجعفرية



يُعتَبَرُ قصر الجعفرية في اسبانيا القصر الإسلامي الأقصى شمالا في العالم. إذا ماكانت هناك ثلاثية معمارية مكملة لثنائية قصر الحمراء بغرناطة وجامع قرطبة فلابد أنها ستكون قصر الجعفرية بسرقسطة. إنه أهم بناء مدني من القرن الحادي عشر في الغرب الإسلامي وأفضل مثال محفوظ من عصر أندلس ملوك الطوائف. يَشْتَقُ قصر الجعفرية تسميته من اسم حاكم طائفة سرقسطة في عهد ملوك الطوائف، أبو جعفر أحمد بن سليمان بن هود المقتدر بالله (1046ـ1081م)، الذي أمر ببنائه في القرن الحادي عشر. بعد استيلاء ملك أراغون ألفونسو الأول الملقب بالمحارب على سرقسطة عام 1118م، أصبح القصر مقرًا لملوك أراغون ثم مقاما للملكان الكاثوليكيان ولمحاكم التفتيش الإسبانية. عرف القصر سلسلة من التحولات الإنشائية المختلفة على مر العصور إلى أن أضحى اليوم عنصرا مركبا من مجموعات معمارية متنوعة متباينة.

تُحيط بالقصر هالة من الأسرار والغرائب والنوادر والأساطير التي تكوَّنَت في مُختلف مراحل تشييده وتعميره. يعكس القصر اليوم مزيجا من البصمات الثقافية المختلفة والمتمايزة التي خَطَّها ملوك وعلماء وجُنود وسجناء… يعكس كل ركن من أركانه حكايا وقصص مُثيرة تقطع للماضي وللتاريخ تذكرة.


برج الجعفرية: من مرصد فلكي إلى سجن لمحاكم التفتيش

قاد أبو جعفر المقتدر بالله،  مُشَيِّد قصر الجعفرية، طائفة سرقسطة إلى ذروتها السياسية وأوجها المعرفي نظرًا لاحتضانه لأهل الفِقه ورعايته للعلوم وحمايته للفلسفة والفنون. ولم تُنافِسها في حمل مِشعل الثقافة في ذلك الوقت سوى طائفة اشبيلية. كان أبو جعفر المقتدر بالله حكيماً ومثقفًا وصَبّاً مُستهاما بعلم الفلك. لذلك لم يستبعد المؤرخون أن يكون “برج التروبادور” بقصر الجعفرية مرصدا فلكيا في عهده.

“وكان المقتدر بالله بن هود أمير سرقسطة قد تعاطى علم الفلك، وقد وصفه ابن حزم القرطبي بقوله: (وهل لكم في علم النجوم ملك كالمقتدر فأنه كان في ذلك آية). وكذلك الأمير المؤتمن بن المقتدر بن هود الذي ألف كتاب (الاستكمال في الفلك). وقد درسه موسى بن ميمون ووضع له شرحا، وقال انه جدير بأن يدرس بنفس العناية التي تدرس بها كتابات اقليدس وكتاب المجسطي لبطليموس” (1) 

 ومن ملوك الطوائف بالأندلس بنو هود ملوك سرقسطة وما إليها ومن أشهرهم المقتدر بالله وابنه يوسف المؤتمن وكان المؤتمن قائما على العلوم الرياضية وله فيها تآليف ومنها كتاب الاستكمال والمناظر وولي بعده ابنه المستعين” (2)

 


برج التروبادور بقصر الجعفرية

 

يستطيع زائر قصر الجعفرية اليوم تأمل خطوط ونقوش ووسوم صُوِّرَت على جدران برج “التروبادور”. تعود هذه التدوينات الدقيقة والرقوش الضامرة الرقيقة لسجناء حُبِسوا في البرج بعد أن تحوَّلَ إلى سجن. يُعتبر برج “التروبادور” أقدم بناء في قصر الجعفرية. يقع في جانبه الأيمن. كان بمثابة برج مراقبة دفاعي، وتبنَّى موازاةً مهمة المرصد الفلكي. تحوَّل البرج إلى سجن ومعتقل في عهد الملكان الكاثوليكيان سنة 1485م. اتُّخِذَ قصر الجعفرية في تلك الفترة كمقام ومُستَقَر لمحاكم التفتيش وأصبح برج “التروبادور” سجنا للمقر، واستمر الأمر على هذا الحال طوال مائتي عام.

خلَّدَ السجناء ذكراهم بتوقيعات ورسومات لازالت ظاهرة ماثِلة جَلِيَّةً إلى يومنا هذا على جدران البرج: مئات السلاسل الزمنية لعد الشهور والأيام واحتساب الفائت من الأعمار، رسوم كاريكاتورية لوجوه قبيحة دَميمة مشوهة يُعتَقَدُ أنها تُصَوِّرُ غِلظة وجهامة السجَّانين، رسمة لمعركة سهام بين قلعتين، آثار نقوش لسفن بحرية مُصوَّرَة بدقة مُحكَمة ومهارة عالية، وقَطْعٍ محوري شارح لعناصر السفينة ومُفسِّر لتفاصيلها ومُوضِّح لدواخلها بإجادة واحترافية وإتقان. تدل هذه البراعة في نسخ السفن على أن مؤلفيها كانوا على الأرجح سجناء خبراء في البحرية. مثيرة للانتباه بعض النقوش المُصَوِّرَة لألواح لعبٍ للتسلية والتي لايُعرَفُ على وجه التحديد هل هي لمساجين أم تعود لسَجَّانين قضوا وقت حراستهم ومراقبتهم للسجناء في اللعب. بالإضافة للرسوم هناك تدوينات تعريفية ذاتية خَطَّها السجناء لتخليد ذكراهم على الحيطان كسجين يُدعى “ميغيل كولاس” دَوَّن اسمه وأصله كمُنتَسِبٍ لبلدة “أمبيل”، وهي بلدة متواجدة بالقرب من سرقسطة، وذَكَرَ أنه في ذلك العام الذي وافق سنة 1609م كان شابا يبلغ من العمر 22 عامًا. ومن بين التوقيعات، يبرز أيضا توقيع يعود لجراح إنجليزي سجين يُدعى ج. بولد.

رسومات ونقوش تعود لسجناء برج التروبادور بقصر الجعفرية (3) (4)

 

خُطَّت معظم النقوش والرسومات في أماكن خفية مُستترة أو مُضمرة نسبيا للاحتجاب والتخفي عن أعين الرقابة. سُطِرَت بشكل أساسي على الجير، بينما ندرت وقلَّت على الواجهات الحجرية الصلبة. تظهر العديد من الآثار المتبقية على المادة الجيرية سوداء جزئيًا، الأمر الذي قد يحيل على تزود منجزي الرسومات بنور الشمع لتسهيل الرؤية أثناء الرسم.  ربما كانوا يخطُّون نقوشاتهم ليلا حتى لا يتمكن أحد من رؤيتهم، أو في مناطق مظلمة ضعيفة الإضاءة. إن تأمل النقوش والرسومات وتفاصيلها الدقيقة من أزياء وقوارب وغيرها يدل على أن معظمها يعود إلى القرن السابع عشر، وإن كانت هناك رسومات أخرى أقل عددا، ترجع لفترات زمنية أقد.

تعود تسمية البرج الحالية “التروبادور” للقرن التاسع عشر، وهي تسمية مقتبسة عن دراما فروسية رومانسية تدعى “التروبادور” تدور أحداثها في قصر الجعفرية ويعود تأليفها للكاتب المسرحي الإسباني أنطونيو غارسيا غوتيريز (1813 – 1884م). قام المؤلف الموسيقي الايطالي جوزيبي فيردي (1813 – 1901) بتحويلها إلى عمل أوبرالي حمل نفس الاسم “التروبادور” في عام 1853م. يُعتقَدُ أن كلمة «تروبادور» أو «طروبادور» تعود في أصلها لكلمتي «طرب» و«دور» كنايةً على عزف الموسيقى والتنقل بين القصور، إذ تُطلق على «مطربين» كانوا «يدورون» من قصر لآخر. ويُعتبر التروبادور شاعرًا وموسيقيًا من القرون الوسطى. عاش في الجنوب الشرقي لفرنسا وسرقسطة في مملكة أراغون والضواحي. وهناك من يحيل مصطلح «تروبادور» أو «طروبادور» إلى أصل لاتيني، باعتبار أن كلمة «تروبادور» اقتباس لغوي عن الفعل البروفنسالي «trobar»، المأخوذ بدوره من الكلمة اللاتينية «trope» بمعنى أغنية. والبروفنسالية هي لهجة من الأوكسيتانية تعود لبروفنس (منطقة في جنوب شرق فرنسا).


غرفة ذهبية بجدران لامعة

أمر حاكم سرقسطة الملك أبو جعفر أحمد بن سليمان بن هود المقتدر بالله (1046ـ1081م) بتشييد قصر الجعفرية في  القرن الحادي عشر. أطلق عليه اسم “قصر السرور”. كما سَمَّى قاعة العرش التي استقبل فيها أعيان الممالك الأخرى “مجلس الذهب” وقد خلَّدَ هذه التسميات في شعره حين قال:

قصر السرور ومجلس الذهب … بكما بلغت نهاية الأرب )

لو لم يحز ملكي خلافكما … كانت لدي كفاية الطلب )


مجلس الذهب

بعد سقوط سرقسطة سنة 1118م، عرف قصر الجعفرية إضافات معمارية متباينة وتغييرات متعددة وعمليات هدم وإصلاح وتوسيع غيَّرَت ملامح القصر الأندلسي الأَّوَّلي. تقع الآثار الإسلامية الباقية من قصر الجعفرية الأصلي بالواجهة الشمالية، تضم بقايا من مجلس الذهب، وآثار مسجد خاص مثمن الأضلاع صغير المساحة خُصِّصَ للملك وحاشيته يقع في الطرف الشرقي من رواق مدخل مجلس الذهب ومحراب في الزاوية الجنوبية الشرقية، يشير لاتجاه مكة (القبلة).


باب مسجد قصر الجعفرية

تمتعت قاعة العرش بخاصية ولوج ثلاثي. تسمَّت قديما بمجلس الذهب نسبة للمعان الذهب وبريقه وتوقُّدِه. تزيَّنَت جدران مجلس الذهب الأندلسي الأصلي بالجعفرية بتدرجات وظلال مجموعة من الألوان (على وجه التحديد: الأصفر والأحمر والأخضر). كان انعكاس ضياء الشمس وإشراق نورها وتسرب أشعتها للمجلس كفيل بجعل الحيطان تلمع وتتلألأ وتتوهَّج مما يجعل المجلس يبدو وكأنه من ذهب.

فَقَدَ المجلس جانبه الغربي ومعظم ألواح الزينة الجبسية التوريقية التي غطت الجدران، كما أضاع أرضياته الرخامية الأصلية البيضاء. كان يعكس صورة دلالية للكون. رَمزت زينة أسقفه الخشبية للسماء. جسَّدَ القوة التي مارسها ملك سرقسطة كحاكم وعارف بالكون السماوي ومالك لمفاتيح معرفة الفَلَك.


هكذا فك الملكان الكاثوليكيان العُقدة!  

تزيَّنَت مرافق الملكان الكاثوليكيان في قصر الجعفرية بأسقف ذهبية وزخرفات ملكية الرمز والدلالة وبعبارة: “Tanto monta”.

 تشير العبارة إلى أسطورة العقدة الغوردية. تحكي الأسطورة قصة عقدة شديدة الاختلاط والتشابك والتداخل تواجدت في سالف العصر أمام معبد غورديو، قيل أن الشخص الذي سيفكها سيصبح سيد آسيا. وذلك ماحدث بالفعل، ولكن دون الحاجة للدخول في متاهة ومعضلة فك عقدة شديدة الالتواء والتعقيد والتشابك وإنما تم اللجوء ببساطة لقطعها بالسيف. تتوجت الأسطورة بعبارة “Tanto monta”

والتي تأتي بمعنى كلاهما ملائم أو كلاهما متشابه، فك العقدة أو قطعها. ويستخدم التعبير عادة للدلالة على أن هناك عوائق وعراقيل ومشاكل قد يبدو حلها صعبا بينما في واقع الأمر قد يكون كل ماتحتاجه هو البتر بالسيف، عمل مقدام جرىء وتدخل حاسم فاصِل قاطع. اعتقد الملك فرناندو أن هذه العبارة تنسجم مع فلسفته في الحكم فأخذ يتيمن بها طوال حياته. ولم ترتبط به وحده وإنما أيضا بزوجته إيزابيلا.


عبارة “Tanto Monta” في قصر الجعفرية


الأسود كحيوانات أليفة

إن وجود أسود بقصر الجعفرية كعناصر رِفقة مُفَخَّمة مَهيبة لأمر موثق منذ القرن الرابع عشر. هناك وثائق يطالب فيها العديد من الملوك بالإتيان بأَسَدٍ جديد كحيوان رفقة وصحبة بعد موت أسدهم الحالي. مُنِحَت الأسود أيضا كهدايا وعطايا بين الملوك وأصحاب السلطة. شُيِّدَت الخنادق المُحيطة بقصر الجعفرية في عام 1593م عند اتخاذ القصر كقلعة ثم ثكنة عسكرية. في ذلك الوقت، تم تشييد جسور متحركة لتسهيل المرور عبر هذه الخنادق العميقة التي خُصصت أيضا كمحل إقامة للأسود.

تقول أسطورة شعبية إسبانية أن روح نهر إبرة (الإيبرو)  تجسدت في هيئة انسان ذات مساء لنبيل عربي مهاجر دون مأوى، سألته عن رغباته فأجابها أنه بحاجة لبيت يأويه فأهدته قصرا بديعا. واستيقظت ساكنة سرقسطة في اليوم الموالي على منظر قصر مهيب فخم جليل شُيِّدَ بين عشية وضحاها للنبيل العربي… وكان هذا القصر هو قصر الجعفرية!

نهر إبرة (الإيبرو) سرقسطة


سميرة فخرالدين


....................................................................................................................................................... 

مراجع:

(1) “الأنوار الحضارية من القطوف الأندلسية اليانعة” محمد بشير حسن راضي العامري. ص 81.

(2) “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” أحمد بن محمد المقري التلمساني. تحقيق: د.إحسان عباس. دار صادر – 1968. (الجزء الأول، ص441)

(3) Si las paredes de la Aljafería hablasen. MANUEL MORALES. Zaragoza – 24 JUN 2018 –  El pais.

(4) « LA ALJAFERÍA (ZARAGOZA) Torre del Trovador » .José Antonio Tolosa . ARTE MUDÉJAR EN LA CIUDAD DE ZARAGOZA.

(5) Curiosidades y secretos del Palacio de la Aljafería. 13 AGO 2021. Gran casa


لُغز الكُتب الرصاصية المُكتَشَفَة بعد سقوط الأندلس

 

لُغز الكُتب الرصاصية المُكتَشَفَة بعد سقوط الأندلس





بعض الكتب الرصاصية المعروضة حاليا بمتحف إيل ساكرامونتي إلى جانب مادة توثيقية

 

تحتفل غرناطة في مطلع فبراير لكل سنة وبالضبط في أول يوم أحد من كل شهر فبراير (الموافق هذه السنة ل 6 فبراير 2016) بإحدى الحلقات التاريخية الأكثر جدلية في تاريخها. يتوجه آلاف الأشخاص لدير إيل ساكرامونتي, حيث يتم استعراض بقايا يُعتَقَدُ أنها تعود “للقديس سيسيليو”. ظهرت هذه البقايا في إسبانيا في القرن السادس عشر, إلى جانب كتب رصاصية يُعتقد أنها من صنع المسلمين الذين أجبروا على اعتناق المسيحية بعد سقوط الأندلس. وإن أعلن البابا إينوسينسيو الحادي عشر عن زيف هذه الآثار في وقت لاحق، إلا أن السلطات الكاثوليكية الغرناطية أبت إلا أن تخفي قصة زيف الألواح والبقايا عن المجتمع الغرناطي لقرون.

ويَعتَبِرُ المؤرخون الكتب الرصاصية أحد أشهر أعمال التزييف التاريخية التي عرفتها إسبانيا القرن السادس عشر, يتعلق الأمر ب 223 لوحا رصاصيا دائريا من 10 سنتمترات، (تُكوِّنُ في مجموعها حوالي 21 كتابا), نُقِشَت عليها رسومات عسيرة على التحليل والفهم, ونصوصا باللاتينية وأخرى بأبجدية عربية غريبة. تم الاعتقاد في بادئ الأمر بأن الكتب المكتشفة عبارة عن إنجيل خامس كشفت عنه “السيدة مريم العذراء” ليعمم في إسبانيا! (1)

أكد المستعرب، الباحث، الكاتب والمترجم مغيل آخرتي الخبير في كل ما يتعلق بهذه الكتب المُكتَشَفَة في إسبانيا القرن السادس عشر، أن الكتب مزيفة(2), زُوِّرَت ونُسِبَت ل”قديس يُسمَّى سيسيليو” وآخر يُدعى “القديس إيستيفون”، واللذان في واقع الأمر، لم يُعرَف عنهما أي شيء في السابق. وفوق هذا وذاك تم الادعاء بأنهما من أصل عربي.

الأمر الذي يرى فيه الكاتب “مغيل آخرتي” محاولة من مُبتَكِر هذه الكتب أو الألواح الرصاصية جلب تعاطف مع المورسكيين, أي المسلمين الذين بقوا في إسبانيا تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الأندلس سنة 1492م , وخُيروا بين اعتناق المسيحية أو ترك إسبانيا(3) بمعنى أن الكتب الرصاصية ليست على الأرجح، سوى بصمة خَطَّتها أنامل أندلسية مورسكية بشبه الجزيرة الإيبيرية. اخترعها المورسكيون كثورة صامتة يائسة ضد التطرف, في محاولة لنصرة دينهم، والحفاظ على حياتهم، ولغتهم، وهويتهم، وأملاكهم، وعاداتهم وتقاليدهم. والعيش دون ملاحقة دينية, وتفادي الطرد عبر تأليف ألواح رصاصية يربط مضمونها الإسلام بالمسيحية.

ويُعتقَدُ أن أصل هذه الكتب يعود إلى الوضع الذي عاشه المورسكيون الغرناطيون بإسبانيا بعد سقوط الأندلس, حيث كابد المسلمون غما وكربا بسبب التطرف الديني الممارس عليهم من طرف محاكم التفتيش، حاولوا على إثره البحث عن آخر محاولة للتعايش, بابتكار ألواح تحاول التوفيق بين الديانتين، الإسلام والمسيحية.

 

قصة اكتشاف الكتب الرصاصية

في الثامن عشر من مارس لسنة (1588) وخلال عملية هدم برج توربيانا أو البرج العتيق، الذي شكَّلَ منارة مسجد غرناطة القديم، لتشييد كاتدرائية المدينة، تم العثور ضمن الأنقاض على صندوق معدني. وما إن فُتِحَ حتى عثر بداخله على قطعة قماش تتضمن دموعا ممزوجة بالدم تعود، حسب ما تدعيه مُكوِّنات الصندوق، “للسيدة العذراء خلال آلام السيد المسيح”، عظم إصبع (إبهام القديس إسطفانوس، أول “شهيد” في المسيحية)، ولوح خشبي يتضمن صورة للعذراء تحتضن الطفل بين ذراعيها وترتدي زيا مصريا، ومهارق كُتِبَ عليها بثلاث لغات: اللاتينية،القشتالية, والعربية، توضح على رقعة شطرنجية تتضمن حروفا في كل تربيعة، “نبوءة القديس خوان”، وتفسر كيف “قام القس باتريك تلميذ سيسيليو” أسقف إليبريس بإخفاء الصندوق في مكان آمن، وكيف توصل بهذه البقايا.

ولتقريب القارئ من دلالة ما عُثِرَ عليه في الصندوق بالنسبة للمجتمع القشتالي آنذاك, سنتطرق لهذه الاكتشافات وفقا لمفهومها في الديانة المسيحية. وتجدر الإشارة مسبقا إلى أن هذه الاكتشافات ليست سوى اختراع آدمي, لذلك فالمصطلحات الجدلية التي تحمل مفهوما مغايرا في الإسلام محفوظة، ونضعها بين “علامات” ونستعملها فقط لتوضيح ما تعنيه هذه الرموز للكنيسة، وللفكر الإسباني المسيحي, وللمجتمع القشتالي الكاثوليكي.

انعقدت على إثر الاكتشاف جلسة للعلماء، وفي مطلع أبريل, تم التصريح بأن ما تم العثور عليه حقيقي فعلا. هكذا تم تأكيد صحة ومصداقية محتويات الصندوق. ولكن سرعان ما ظهر لهذا المعتقد عدة مناهضين.

بعد وفاة المطران خوان منديث سالباتيرا حل محله بيدرو دي كاسترو -الذي سيصبح واحدا من أشد المدافعين عن الاكتشاف- إذ اشتُهرَ بإقصائه الدائم لروما وللملك, بغية تمتع غرناطة بكل الاستحقاقات.

أراد البعض تفحص الاكتشاف, وبالتالي إشباع الفضول في مسألة ظهور شخصيات دينية هامة من أصل عربي. أما الملك فيليب الثاني، تلك الشخصية الروحانية أسيرة الخرافات، فلقد أراد نقل الاكتشاف للإيسكوريال. وأمام هذا الموقف السلبي لغرناطة، أصدرت روما قرارا بمنع القيام بأي بحث بهذا الخصوص، ولكن واصل رئيس الأساقفة مهمته وفوض للعديد من المفسرين مهمة الترجمة من العربية نذكر من بينهم: لويس فخاردو، مغيل دي لونا، فرانسيسكو لوبيث طماريث, وكاستيو دي ليون. ولكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث تم العثور بين سنتي 1595 و1599 بضاحية جبل بالبراييسو على 22 قرصا رصاصيا منقوشا على الوجهين بعربية مموهة وقديمة، مسماة سليمانية. وأخرى تحمل نجمة داوود أو ختم سليمان، الشيء الذي أضفى مزيدا من المصداقية في صفوف المدافعين عن صحة الصندوق المكتشف(4).

 

مضمون الكتب الرصاصية

ألواح رصاصية باللغة العربية ونلاحظ على اليمين خاتم سليمان

تحمست غرناطة للحدث، حيث وصفت الألواح عدة أشياء, اعتبرها المجتمع الإسباني الكاثوليكي آنذاك, على قدر من الأهمية, فتحدثت عن “استشهاد” أتباع مزعومون للقديس يعقوب بن زبدي (المعروف ب: سانتياغو): سيسيل، إيسثيو، ميسيطون، تسيفون. “استشهدوا” جميعا في زمن نيرون حسب مفهوم الشهادة في المعتقد المسيحي, وحسب ما تدعيه الألواح الرصاصية عثر على رماد وبقايا عظام تعود لهؤلاء “الشهداء”. والأهم هو أن تم التطرق لعقيدة المسيح من وجهة نظر إسلامية، ليس كابن الله, وإنما كروح من الله. كما تطرقت الألواح لمواضيع أخرى خرافية, بعضها يمزج بين الديانتين المسيحية والإسلام, مثل: مرافقة العذراء للنبي محمد (ص) في رحلته الليلية، “معجزات” القديس يعقوب، حقيقة الإنجيل. باعتباره كتابا مبهما لا زال لم يستطع قراءته أحد، وغيرها من المواضيع.

تتحدث هذه الألواح أيضا عن “أصول مسيحية لغرناطة”، والتي تعود وفق ادعاء الكتب الرصاصية لقدوم الحواري يعقوب بن زبدي إلى غرناطة, مرفقا بتلاميذ من أصل عربي: سيسيليو، إيسثيو، وتسيفون، تتطرق الكتب أيضا إلى كيفية لجوئهم لهذه الكهوف طوال 40 يوما, حيث قاموا بتحرير بعض هذه الألواح وحفظها بعين المكان، وهكذا ومع هذه الاكتشافات الكاذبة، تحولت غرناطة بالنسبة للمجتمع الكاثوليكي, إلى شيء أكبر بكثير من “مجرد غرناطة مورسكية وأرض فتحها العرب المسلمون”.

الآن، ومع كل ما تم اكتشافه أصبحت “المدينة الخائنة” بالنسبة للمجتمع الإسباني الكاثوليكي أكثر إخلاصا للمسيحية من شَنْتَ يَاقُوب (سنتياغو دي كومبوستيلا).

وفي كتاب يحمل عنوان “حقيقة الإنجيل” يتم سرد كيف أن العرب بالنسبة لمريم العذراء أمة فاضلة، وأن لغتهم اختيرت أيضا لنشر شريعة موسى والإنجيل. ومن جهة أخرى ودائما في إطار ابتكار نصوص توفيقية بين الإسلام والمسيحية، يتم الحديث عن السيدة العذراء وفق مفهوم الحبل بلادنس.

 

تأسيس دير إيل ساكرامونتي تخليدا للاكتشافات المزيفة!

نشأ دير إيل ساكرامونتي على إثر إحدى أهم حلقات التزوير الديني التي عرفها التاريخ، مستغلة الحماسة الشعبية التي أثيرت حول قضية اكتشاف الكتب الرصاصية، والعثور على بعض البقايا المزعومة لقديسين وهميين, تحدثت عنهم الألواح الرصاصية المكتشفة. وإن أعلن البابا إينوسينسيو الحادي عشر عن زيفها في وقت لاحق، إلا أن السلطات الكاثوليكية الغرناطية أبت إلا أن تخفي قصة زيف الألواح عن المجتمع الغرناطي طوال أربعة قرون. حتى أنها على إثر الاكتشاف, نصبت القديس سيسيليو كحام حراسة غرناطة. ولا زالت بقاياه المزيفة تكرم بمذبح كنيسة دير إيل ساكرامونتي. أمر مشابه لما حصل مع القديس سوداريو دي تورين الذي لا زالت بقاياه تكرم إلى يومنا هذا وإن أعلن العلماء أنها مزيفة.

ويُحتفظ حاليا ببقايا القديس والشهداء المزعومين بالمذبح الأكبر لكنيسة دير إيل ساكرامونتي بغرناطة, في أوعية مخصصة لحفظ رفات الموتى مباشرة تحت التماثيل. وفي الفاتح من فبراير لكل سنة, يتم الاحتفال بيوم القديس سيسيليو، والذي مع ظهور الكتب الرصاصية، تم تعيينه كقديس حام لمدينة غرناطة, ليحل محل سان غريغوريو دي إليبيريس، ويسمى أيضا سان غريغوريو إيل بيتيكو والذي نصبه المجتمع الكاثوليكي كقديس حام لغرناطة مباشرة بعد سقوط الأندلس سنة 1492.

إن عرض هذه البقايا المزعومة بخزانات الدير, وكذلك عرضها على العامة في المهرجانات الشعبية الدينية التي تتزامن مع الاحتفاليات السنوية, التي تقيمها مدينة غرناطة “على شرف القديس سيسيليو”، يجلب أموالا وتبرعات هامة للسلطات الدينية.

مع اكتشاف بقايا القديسين المزعومة، ترأس المطران بيدرو دي كاسترو مشروع إنشاء دير إيلسكرامونتي, والذي سيحمل حينها اسم بالبراييسو، كما تم تجهيز الكهوف التي عثر بداخلها على جزء من هذه الآثار الدينية المزيفة باعتبارها “كهوفا مقدسة”، أُطلِقَ عليها اسم دياميس (في إحالة على سراديب الأموات التي اتخذها المسيحيون مخبأ لهم أثناء اضطهادات الوثنيين). يرتبط المكان حاليا بخرافة جلب الحظ, حيث تقوم الزائرات من النساء بالتردد على حجر كبير يوجد بعين المكان, يُعتَقَدُ أنه يمنح المرأة التي تقوم بتقبيله حظ الزواج في نفس السنة.

بقايا مزيفة يمنحها رئيس الأساقفة سنة 2011 لقاضي غرناطة ليقوم بتقبيلها

 

الكشف عن زيف الكتب الرصاصية

وفي نهاية سنة 1631، رُحِّلَت الألواح الرصاصية إلى مدريد، ثم من هناك إلى روما حيث تم دراستها. ومن بين الأمور التي كشفت عنها هذه الوثائق، عرضها الواضح لفكرة أن عقائد الغزوات والطرد, ليست سوى مضامين دخيلة ومندسة تم حشوها ضمن التعاليم الدينية استجابة لطموحات شخصية.

اهتم البلاط الملكي الحاكم كثيرا بالكتب الرصاصية، وتمكن أخيرا الملك فيليب الثالث من نقلها لمدريد بإصدار أمر إجباري بذلك, بالرغم من معارضة السلطات الدينية الغرناطية.

وبعد عدة سنوات هدد البابا أوربانو الثامن الملك فيليب الرابع بالحرمان الكنسي, في حال امتناعه عن إرسال الألواح الرصاصية للفاتيكان, وهكذا استطاع البابا جلبهم للفاتيكان سنة 1642, وتم فحص الألواح من طرف مختصين, وإنهاء ترجمتها إلى اللاتينية سنة 1665، ثُمَ الإعلان أخيرا عن زيف الآثار من طرف البابا إينوسنسيو الحادي عشر سنة 1682، وذلك لأن الألواح لا تعود زمنيا للعصر الذي ادعى أنها ترجع له، ولعدم وجود هؤلاء الشهداء، ولوشاية حرفي موريسكي بالحقيقة، مفيدا بأن تم ابتكار الألواح ودفنها ليتم العثور عليها لاحقا.

فتمت مصادرة الألواح, وطواها النسيان في غياهب الأرشيف السري للفاتيكان, إلى يونيو 2000.

أما في نطاق دير إيل ساكرامونتي فلقد واصلت الجهات المسؤولة نشر المقالات والكتب التي تدافع عن أصالة ومصداقية بقايا “الشهداء”, بالرغم من الإعلان الرسمي عن زيف الآثار المكتشفة, وأن لا وجود لهؤلاء “الشهداء” بالأساس.

لا يجب أن ننسى أن هذه الآثار الزائفة منحت غرناطة ما كانت بحاجة إليه في تلك الفترة: عددا مهما من الآثار، أصبحت محجَّا, وتَخَلَّصت من سمعتها السابقة كمدينة “موروس خائنة”. ولكن لماذا لا يزال الدير مفتوحا إلى اليوم؟ وإلى متى سيستمر تبجيل قديسي إيل ساكرامونتي؟(5)

بقايا القديسين المزيفة معروضة في مذبح كنيسة إيل ساكرامونتي تحت التماثيل

 

السياق التاريخي للتزييف

لماذا قام المورسكيون بافتعال هذه الاكتشافات؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أولا الإحاطة بحيثيات الحقبة والسياق التاريخي لحادث التزوير. بعد احتلال غرناطة، من طرف الملكان الكاثوليكيان الزوجان فرناندو الثاني من أراغون، وإيزابيلا الأولى من قشتالة.

وفي يناير لسنة 1942 م، وقع المسلمون الغرناطيون على معاهدة تضمن لهم حرية العبادة، والثقافة الخاصة بهم, والاحتفاظ بالملكيات، ولكن سرعان ما مارست السلطات الكاثوليكية ومحاكم التفتيش ضغطا على المسلمين للتخلي عن ديانتهم ولغتهم واعتناق المسيحية.

لقد شكلت العقيدة أهم شيء في ذلك العصر، لم يقتصر الأمر على الإيمان لمجرد الإيمان ذاته، وإنما ارتبط بمفهوم إلى أي الفِرَق تنتمي! فإذا انتميتَ للكاثوليكية, ستستطيع الحفاظ على حياتك وعلى ممتلكاتك، وستستطيع أيضا إنهاء آخر أيامك كما حلمت دائما، محاطا بأسرتك. لم يُسمَح للمورسكيين بارتداء الزي الإسلامي، وأُجبِرُوا على تناول لحم الخنزير كما أُجبِرُوا على التحدث بالقشتالية بدل العربية (6) . “كان أول الغدر تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة, وكذلك مسجد الحمراء، ثم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كاتدرائية.

ثم نظمت الكنيسة في السنين الأولى فرقا تبشيرية من رهبان وراهبات للقيام بنشر النصرانية, وكان ظنهم أول الأمر أن المسلمين سيعتنقون النصرانية بسهولة، خاصة عندما هاجر زعماؤهم وارتد الكثير من كبارهم، ولما مرت السنون ولم تأت هذه الفرق بنتيجة تذكر, أخذت الكنيسة والدولة تفكر في تغيير سياستها من اللين إلى العنف، ملغية كل بنود معاهدة التسليم الواحدة”(7).

وفي 27 سبتمبر عقد هرناندو بن جهور الصغير، أحد قواد الثورة الذي كان “وزيرا” في بلدية قاديار بالبشرات جمعا في حي البيازين لقادة الثورة في بيت رجل شماع اسمه “عدلت”، حضره 26 ممثلا عن المناطق الأندلسية المختلفة. فشرح لهم ضرورة بيعة سلطان الأندلس قبل إعلان الثورة ليجتمع الناس حوله، ورشح لهم ابن أخيه فرناندو دي بالور وقرطبة، وكان هرناندو وفرناندو ينحدران من الأمويين ،خلفاء قرطبة. كان فراندو في الثانية والعشرين من عمره، ذو شجاعة ورجاحة عقل، ولد في بلدة بالور بجبال البشرات وأصله من قرطبة، وكان يعمل ممثلا في بلدية غرناطة. وكان متزوجا من مسلمة اسمها برياندة بريز، وكانت هي ونساء المسلمين يشاركن من أول وهلة في تهيئة الثورة بكل كتمان وتشجيع، فبايعه الحاضرون، وحول اسمه إلى “محمد بن أمية”.( 8)

أحدث الموريسكيون ثورة ما بين سنتي 1568و 1571، وبدأ “العصيان” المسلح على شكل حرب عصابات بدعم عسكري ومالي من الجزائر, ولكن اغتيل ابن أمية سنة 1569 وخلفه محمد ابن عبو, ثم أرسل فيليب الثاني قوات عسكرية كبيرة قوامها جنود إسبان وإيطاليون لقمع الثورة, على رأسها أخوه غير الشقيق جون النمساوي، فاغتِيل قائد المورسكيين ابن عبو بيد بعض أتباعه في مؤامرة دبرها الإسبان في أحد كهوف البشرات في 13 مارس 1571، ثم خمدت الثورة سنة 1571.

((9

وبعد “الهزيمة” جاء “العقاب”، حيث أمر فيليب بإبعاد المسلمين عن غرناطة، فأبعد المورسكيون أولا في يونيو 1569 عن رباض البيازين، ثم أبعد كل المورسكيين من غرناطة إلى قشتالة، وهكذا اجتمع على المورسكيين الغرناطيين “حرب قذرة”, تلاها مباشرة تشريد وإبعاد عن بيوتهم ومدنهم وقراهم, ففي وسط الأمطار الغزيرة وثلوج الشتاء الأولى، اقتيد المورسكيون إلى نقاط تجميعهم في غرناطة فيما وصفه دون خوان بأنه “أبشع منظر في العالم، ذلك لأنه في لحظة المغادرة هطلت أمطار وثلوج غزيرة وعصفت الرياح، فالتصق هؤلاء القوم المساكين ببعضهم وهم ينوحون”.

وقد أبعد الرجال أولا، تلاهم النساء في مرحلة تالية، وقد وصف خينيس بيريث دي هيتا النساء المورسكيات وهن “تبكين وتنظرن إلى بيوتهن وتعانقن جدرانها وتقبلنها مرات ومرات، وهن تتذكرن ماضيهن المجيد وإبعادهن الحالي والمستقبل المشؤوم الذي ينتظرهن” في إبعاد جماعي شبّهه بسقوط طروادة. وكثير من العائلات لم يلتئم شملها ثانية، وتعرض كثير من المورسكيين للاختطاف في أثناء الترحيل من جانب اللصوص ومرافقيهم أنفسهم لبيعهم عبيدا في أسواق النخاسة الأسبانية التي راجت تجارتها كثيرا على حساب الثورة والثوار.”( 10)

بعد الثورة أصبح قرار طرد المورسكيين وشيكا، وهكذا وفي هذا السياق التاريخي تم تزوير الكتب الرصاصية؛ حيث اعتقد المورسكيون أنه إذا ما وُجِدَ أمرٌ يربط بين الديانتين، فالكل سيصبح عنصرا واحدا ولن يكون هناك تفرقة بين المواطنين، كما سينتهي التعذيب الذي لطالما مارسه المسيحيون بحقهم باسم الدين.

كانت هذه غاية الكتب الرصاصية، ولكن هل استطاع المورسكيون ممارسة شعائرهم الدينية والاحتفاظ بأملاكهم والتحدث بلغتهم, بعد اكتشاف المجتمع الكاثوليكي لهذه الكتب؟ لا, بل تم طردهم من إسبانيا، رُحِّلوا بأمر من الملك فيليب الثالث في مرسوم صدر في 9 أبريل 1609 .

 

الكتب الرصاصية اليوم

وفي سنة 2000, وخلال إعادة ترتيب الأرشيف السري للفاتيكان, ظهرت هذه الكتب الرصاصية من جديد, حيث قرر البابا بندكت السادس عشر إعادتها لأسقفية غرناطة. وفي سنة 2010 ومع افتتاح متحف إيل ساكرامونتي بعد تجديده، تم عرض أربع نماذج للألواح الرصاصية إلى جانب توثيق يوضح ظروف إعادتها لغرناطة, تم تمويل مشروع متحف إيل ساكرامونتي من طرف كل من مجلس أندلوسيا وبلدية غرناطة, أي بأموال جبايات الضرائب المفروضة على الأندلسيين عامة والغرناطيين خاصة، أغلبهم لا يعرفون شيئا بخصوص هذه الاكتشافات الزائفة أو لا يؤمنون بها, حاليا يستطيع زائر المتحف الاطلاع على بضعة نماذج معروضة في خزانات زجاجية تحت مسمى “جدلية الكتب الرصاصية”. (11)

 

من كان المبتكرون؟

ترى الأبحاث والتحريات بأن صانع هذه الألواح الرصاصية هو على الأرجح، المورسكي ألونسو دي كاستيو (غرناطة، منتصف القرن السادس عشر -1610 م). عمل طبيبا ومترجما لدى الملك فيليب الثاني، كُلف سنة1564 من طرف مجلس غرناطة بنسخ النقوش العربية لقصور الحمراء وترجمتها، كما قام بترجمة وثائق رسمية عربية خاصة بالبلاط, وأخرى مرتبطة ببعض مهام محاكم التفتيش الإسبانية. تحوم أيضا شكوك حول مغيل دي لونا (غرناطة 1550 – 1619)، طبيب، كاتب، مؤرخ ومترجم مورسكي.

ولكن تبقى مهنته الرئيسية هي الترجمة, حيث ترجم في بادئ الأمر وثائق لصالح سلطات غرناطة, ثم شغل منصب مترجم للملك بعد ذلك كمؤرخ ألف مغيل دي لونا كتاب “القصة الحقيقية للملك الدون رودريغو”, الذي يعكس أفكارا تتناسب مع مضامين بعض الكتب الرصاصية, مما يرجح فرضية مساهمته في تأليفها, وبالرغم من أصله المورسكي, نال في تلك الحقبة لقب هيدالغو, وهو أحد ألقاب طبقة النبلاء, استعمل في كل من إسبانيا والبرتغال. وكان المطران بيدرو دي كاسترو دائم الدفاع عنه حتى بعد مماته أمام الأشخاص الذين يتهمونه بعدم الانضباط وسوء النية, وتبقى وصيته بدفنه في “الأرض البكر” تماما كما تتم عملية الدفن في المجتمع الإسلامي مثيرة للانتباه.( 12)

ومع ظهور الكتب الرصاصية, كثر من كلفوا بترجمتها, وكان من بينهم ألونسو ديل كاستيو ومغيل دي لونا، وإن تم التشكيك لاحقا بتورطهما في عملية التزييف، وهناك شكوك تحوم أيضا حول المطران بيدرو دي كاسترو لإصراره على تقديم هذه الاكتشافات, كآثار حقيقية، وبالتأكيد هناك كثر آخرون ولكن ليست هناك أسماء معينة، ومن بينهم، على الأرجح، حرفيون وبناؤون وغيرهم, أي موريسكيون مناصرون للقضية(13).

ولكن كل ما استطاعوا الحصول عليه كان: الطرد! قَبَّحَ الله اليأس! لعل عظمة الإنسان تكمن في مدى إدراكه لحجم خسارته، ولكن أظن أن قمة العظمة تتجلى في مدى خوضه الغمار، وإن كان يعلم أنه خاسر لا محالة، في محاولة أخيرة فقط؛ نُصْرَةً لِذلك الشيء الذي يراه قيما, وفي ذلك الزمان، حارب هؤلاء الأشخاص من أجل هويتهم، تلك الهوية التي سُرِقَت منهم باسم التعاليم الدينية، وهكذا طرد العرب المسلمين من شبه الجزيرة الأيبيرية. لقد تعجل المورسكي كل شيء، تعجل الحفاظ على هويته، تعجل نصرة دينه وخدمة ثقافته، تعجل الدفاع عن حياته سلما، تعجل الدفاع عن حياته حربا، تعجل كل شيء، أي شيء، ولكنه لم يتعجل أبدا الطرد والرحيل بعيدا عن ديار أجداده، الطرد لم يعن أحدا وإنما البقاء, كان يعني الكل!


سميرة فخرالدين

________________________________________

(1)

Celebración de San Cecilio en Granada – Romería en el Sacromonte

Ganada direct

(2)

Muere el arabista Miguel Hagerty , traductor de la obra Al-Mutamid.

Granada hoy

(3)

El vaticano devuelve a granada los libros plúmbeos del siglo XVI

El país digital

(4)

Los libros plumbeos la ultima esperanza de los moriscos ?

Istopia Historia

(5)

 المصدر السابق

(6)

Los libros plumbeos la ultima esperanza de los moriscos ?

Istopia Historia

(7)

Darío Cabanelas: El morisco granadino Alonso del Castillo, Granada, Patronato de la Alhambra, 1965

(13)

Los libros plumbeos la ultima esperanza de los moriscos ?

Istopia Historia