صنهاجة.. حي أندلسي في سرقسطة
صورة جوية للآثار الأندلسية المُكتَشَفَة (المصدر: أرشيف مجلس مدينة سرقسطة)
في عام 2001، باشرت مدينة سرقسطة الإسبانية عمليات حفر في شارع “لاإنديبندنثيا”، الذي يُشكِّلُ اليوم قلب المدينة النابض وشريانها التجاري الحيوي، لبناء موقف سيارات تحت أرضي. كشفت أعمال الحفر عن آثار حي أمازيغي أندلسي يعود للقرن الحادي عشر. الأمر الذي دفع السلطات الإسبانية المسؤولة عن إنشاء المشروع إلى إلغائه. أُطلِقَ على الحاضرة المُكتشفة في فترة الحكم الإسلامي للأندلس اسم “صنهاجة” تيمنا بصنهاجة (أو قبائل صنهاجة) وهي واحدة من أكبر القبائل الأمازيغية التي لعبت دورا هاما في تاريخ المغرب الأوسط والأقصى والصحراء الكبرى، بتأسيس دولة بني زيري، ومملكة أودغست الإسلامية ودولة المرابطين، وهي بالتالي من أعرق القبائل في المغرب وشمال إفريقيا.
جاء في “تاريخ ابن خلدون” ج6 ص 152: (وأما ذكر نسبهم فإنّهم من ولد صنهاج وهو صناك بالصاد المشمة بالزاي والكاف القريبة من الجيم. إلا أن العرب عرّبته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج (…) وأما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم بلكانة وأنجفة وشرطة ولمتونة ومسوفه وكدالة ومندلسة وبنو وارت وبنو يتين، ومن بطون أنجفة بنو مزوات وبنو تثليب وفشتالة وملواقة. هكذا يكاد نقل بعض نسّابة البربر في كتبهم وذكر آخرون من مؤرّخي البربر أن بطونهم تنتهي إلى سبعين بطنا (…) وكان المُلك في صنهاجة في طبقتين الطبقة الأولى لملكانة ملوك إفريقية والأندلس، والثانية مسوفة ولمتونة من الملثّمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين). ومما قيل في صنهاجة: لما حووا إحراز كل فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثموا.
كان من بين أهم الأعمال التي قام بها الرومان، وتركت أثرها في مستقبل سرقسطة الأندلس، تسوير المدينة وتحصينها بأربع بوابات مراقبة دفاعية أمنية. خلال الفترة الإسلامية والعصور الوسطى، تم بناء ثماني بوابات أخرى. لم يبق منها اليوم سوى بوابة واحدة ما زالت قائمة في قلب مدينة سرقسطة ألا وهي بوابة “الكارمن” أو كما يُسميها الإسبان “لابويرتا ديل كارمن”. تمركز حي صنهاجة في القرن الحادي عشر على مشارف أحد الأبواب المندثرة والذي حمَلَ آنذاك نفس اسم الحي المُكتَشَف (باب صنهاجة). بعد استيلاء ملك أراغون ألفونسو الأول (1073 – 1134م) على سرقسطة سنة 1118م، تم تغيير اسم ضاحية “صنهاجة” الأندلسية إلى “لاموريريا”.
سرقسطة خلال الحكم الإسلامي للأندلس
تشتق مدينة سرقسطة الإسبانية تسميتها الحالية من اسم القيصر الروماني “أغسطس قيصر” (63 ق.م – 14 م). بعد وصول المسلمين لشبه الجزيرة الإيبيرية تم تعريب هذه التسمية الرومانية لتتحول من “قَيصرأغُوسطا” إلى “سرقسطة”. عُرِفَت في تلك الفترة أيضا باسم “المدينة البيضاء”، في إحالة على حيطانها البيضاء المُجصصة بالجبس والجير وعلى المرمر المُستخدم بشكل طاغ في تشييد مبانيها وقصورها. وهو نوع من المعادن البيضاء الخام التي كان استعمالها حكرا على الطبقة الثرية خاصة قبل بُرُوز الرخام. جاء وَصْف سرقسطة بـ “المدينة البيضاء” على لسان عدة مؤرخين، كالمؤرخ والجغرافي والعالِم السبتي الشريف الإدريسي (1100م/1166م) في كتابه الشهير (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) – ج 2 – الصفحة 554- المسمى أيضًا (كتاب روجر) أو (الكتاب الروجري)، وذلك لأن الملك روجر ملك صقلية هو الذي طلب منه تأليفه: “سرقسطة قاعدة من قواعد مدن الأندلس كبيرة القطر آهلة ممتدة الأطناب واسعة الشوارع والرحاب حسنة الديار والمساكن متصلة الجنات والبساتين ولها سور مبني من الحجارة حصين وهي على ضفة النهر الكبير المسمى ابره، وهو نهر كبير يأتي بعضه من بلاد الروم وبعضه من جهة جبال قلعة أيوب وبعضه من نواحي قلهرة فتجتمع مواد هذه الأنهار كلها فوق مدينة تطيلة ثم تنصب إلى مدينة سرقسطة إلى أن تنتهي إلى حصن جبرة إلى موقع نهر الزيتون، ثم إلى طرطوشة فيجتاز بغربيها إلى البحر ومدينة سرقسطة هي المدينة البيضاء وسميت بذلك لكثرة جصها وجيارها (…) ولمدينة سرقسطة جسر عظيم يجاز عليه إلى المدينة ولها أسوار منيعة ومبان رفيعة”.
اعتُبِرَت سرقسطة واحدة من أهم المدن الأندلسية وأكثرها اكتظاظًا بالسكان في ظل الحكم الإسلامي للأندلس. بلغَت مجدها الأرفع في زمن ملوك الطوائف. لعبت دورا عَظِيما على الصعيد العمراني والعلمي والأدبي. أنجبت أسماء لامعة أغنت رحاب الفكر وموارد العلوم، نذكر من بينها: الفيلسوف ابن باجة -أَبُو بَكْرٍ مُحمّد بن يحيىٰ بن الصَائِغْ بن بَاجَة التجيبي- الذي اهتم بالطب والرياضيات والفلك والأدب والموسيقى وكان أحد وزراء وقضاة الدولة المرابطية؛ ابن الفوال السرقسطي العالم اليهودي الذي لمعَ في الطب والمنطق والفلسفة؛ الفيلسوف فصحون السرقسطي مؤلف كتاب (شجرة الحكمة)؛ الشاعر والكاتب والفقيه اللغوي أبي الطاهر السرقسطي -إسماعيل بن خلف بن سعيد بن عمران الأنصاري المقرئ النحوي الأندلسي السرقسطي- وهو عالم في الآداب، ومتقن لفن القراءات… كما عاش في سرقسطة الشاعر ابن الحداد الأندلسي، أصله من وادي آش إلا أنه فرَّ لسرقسطة سنة 461 هـ، فأكرمه المقتدر بن هود وابنه المؤتمن بن هود من بعده.
تشتهر المدينة اليوم بتنوّع روافدها الثقافية، إذ تشمل أربع ثقافات مختلفة، وهي: المسيحيّة، والإسلاميّة، والرومانيّة، والأيبيريّة. يُعتبر الأسد الشعار الرمزي الرسمي لمدينة سرقسطة لحمولته الدلالية الغنية بالإيحاءات التأريخية المُرتبطة بالقوة والسلطة والنفوذ. يُمكن للسائح المتجول في أزقة المدينة مُصَادَفَة شعار الأسد في مئات الأماكن والأرجاء ومختلف الأعمال الفنية والتظاهرات الثقافية والمنتجات التذكارية والتراثية: في درع المدينة، ودرع فريق كرة القدم وكرة السلة، ومنحوتات الجسر الحجري، وأعمدة الإنارة، وحتى بطاقات حافلات النقل.
نصب تذكاري لتخليد الأثر الأندلسي المكتشف
تطلعا لحماية البقايا الأثرية، تقرر تغطية حي صنهاجة المُكتَشَف مرة أخرى بطبقة من التكسية الأرضية وإلغاء مشروع موقف السيارات. على جانبي شارع “لاإندبندنثيا” حيث ظهرت آثار حي صنهاجة، تم نصب لوحات تذكارية إرشادية توضح تفاصيل البقايا المعمارية المُكتَشَفة مرفقة بنماذج تصويرية مُصغرة للآثار المحفوظة اليوم في باطن الأرض.
في عام 2011، عندما بدأت أعمال تشييد خط للترام فوق المنطقة. تم التأكد من أن المشروع قد تم على بعد مسافة من سطح الأرض بشكل يضمن عدم الوصول إلى الآثار الإسلامية التي يزيد عمقها عن مترين.